استضافت مدينة العلمين الجديدة في 14 أغسطس 2023 قمة ثلاثية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، ورئيس دولة فلسطين، محمود عباس أبو مازن؛ لبحث مستجدات القضية الفلسطينية في ضوء التطورات الإقليمية والدولية المُرتبطة بها، وأولوية حل القضية وفق المرجعيات الدولية والعربية المتعمدة، والتي تضمن إنهاء الاحتلال وإعطاء حق تقرير المصير لشعب فلسطين.
وتُعد قمة العلمين الثلاثية تاريخية بكل المقاييس، رغم اعتماد تلك الصيغة لأول مرة في 2017، لكن الأخيرة تأتي في سياق إقليمي ودولي شديدي التقلب، وتهدف لإبقاء نافذة أمام التسوية الشاملة للقضية الفلسطينية، خاصة مع تصاعد أحداث العدوان الإسرائيلي في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تنذر بتقويض حل الدولتين ووأد محاولات إحياء مفاوضات السلام عبر استمرار نهج "إدارة الصراع"، وهو ما حذر منه الرئيس المصري في كلمته أمام القمة العربية 32 في 19 مايو 2023.
سياق القمة
تنعقد القمة الثلاثية المصرية الأردنية الفلسطينية لأول مرة في مدينة العلمين الجديدة، وسط تطورات إقليمية ودولية معقدة تؤثر بصورة مباشرة على الملف الفلسطيني، في مقدمتها تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في السياسة الإسرائيلية، للدرجة التي أثرت على نفوذ الولايات المتحدة والنخبة اليهودية الأمريكية في الضغط على الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وفق تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وترتب على ذلك النفوذ تصاعد الأعمال الاستفزازية والممارسات العدوانية وغير الشرعية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بشكل يقوض جميع الجهود والضغوط التي تمارس في الإطارين الإقليمي والدولي على الحكومة الإسرائيلية، وهو ما ظهر في عدم التزام حكومة نتنياهو بالتفاهمات التي توصلت إليها اجتماعات الصيغة الخماسية (مصر والأردن والولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين) في العقبة فبراير 2023 وشرم الشيخ مارس 2023، لبحث التهدئة، قبل أن ينقلب الجناح الأكثر تطرفًا في الحكومة الإسرائيلية على تلك التفاهمات باستمرار الاقتحامات للحرم القدسي الشريف بمشاركة وزير الأمن الداخلي إتمار بن جفير، واستمرار الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية والعدوان على مدينة ومخيم جنين ومدينة نابلس.
وفي ظل تداعي اهتمام الإدارة الأمريكية باتخاذ إجراءات تمهيدية واضحة لإحياء عملية السلام مقابل توسيع علاقات إسرائيل بالدول العربية، دون ربطها بخطة للسلام الدائم والعادل في المنطقة الذي يشمل الشعب الفلسطيني، أعادت القيادة المصرية والأردنية والفلسطينية، التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية كمنطلق أساسي لأزمات وملفات الشرق الأوسط في مداولاتها مع الأطراف الدولية كافة، رغم صعوبة الاستفادة من إجماع دولي في الوقت الراهن لدعم القضية على وقع الاستقطاب الدولي الذي صاحب الحرب الروسية الأوكرانية.
كما تقود القاهرة جهود إعادة الزخم والاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية من منبر العلمين التي احتضنت نهاية يوليو 2023 اجتماعًا أولًا للأمناء العامين وممثلي قادة الفصائل الفلسطينية؛ من أجل إنهاء الانقسام وتوحيد الصف الوطني في مواجهة إجراءات السُلطات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة والحفاظ على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعلى رأسها الحفاظ على الوضع التاريخي لمدينة القدس وحرمها الشريف أمام خطط التقسيم الزماني أو المكاني الجارية.
إعادة بناء مسار السلام:
خرجت القمة في ثلاث عشرة نقطة بمحددات حل القضية وفق المرجعيات الدولية والعربية محل الإجماع، وانطلاقًا من أهمية ومركزية القضية الفلسطينية باعتبارها حجر زاوية الاستقرار الإقليمي ومدخل السلام الشامل في الشرق الأوسط وإحدى قضايا السلم والأمن الدوليين التي ينذر نهج إدارتها وعدم حلها بتفاقم انعدام الأمن والاستقرار، وهو ما يمكن بلورته في المحددات التالية:
(*) دعم الدولة الفلسطينية: كان لافتًا في البيان الختامي للقمة الحرص على دعم السلطة الوطنية وأجهزتها في مواجهة أحداث العدوان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وإبراز الالتزام المصري الأردني المشترك في ترسيخ دعائم "دولة فلسطين" باعتبارها حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها أو تعطيلها عبر المماطلة في إحياء عملية السلام.
كما تناول البيان إشادة الزعيمين الأردني والفلسطيني بجهود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والدولة المصرية في توحيد الصف الوطني الفلسطيني، عبر المسار الذي استأنفه الأمناء العامون للفصائل في العلمين 30 يوليو 2023، للسير باتجاه الحل الشامل دون مزيد من الانقسام وتعميق المعاناة الفلسطينية.
ووجهت القمة رسالة تأييد وتضامن ودعم لجهود القيادة الفلسطينية على الأصعدة كافة، في حماية حقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المشروعة في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك في مواجهة الهجمة الشرسة على أراضي الضفة الغربية المحتلة واستمرار مصادرة الأراضي، فيما يبدو ضمن خطوات الجناح المتطرف التي ترمي لانهيار السلطة، وتقويض أجهزة السلطة الفلسطينية من تكرار الاقتحامات والمصادرة غير القانونية لأموال السلطة.
وتشمل تلك الجهود، إلى جانب تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، إثبات حقوقه التاريخية على أرضه المحتلة، ومنها دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" في مواجهة الأزمة التمويلية التي تواجهها، إذ يمثل وجود المنظمة وأداء دورها إثباتًا لوجود ملف اللاجئين وأصحاب الحق في العودة لأراضيهم، والتي تُعد إحدى ركائز الحل النهائي (قضايا الوضع الدائم الأربع) للقضية الفلسطينية.
(*) توحيد الجبهة العربية: مثلت المبادرة العربية للسلام والتي استندت على مبدأ "الأرض مقابل السلام" الأساس العربي المقبول لإطلاق مسار السلام الشامل والعادل لجميع الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية والعربية، ومن ثم تؤكد القاهرة وعمّان أن توحيد الجبهة العربية كفيل بتحريك الملف الفلسطيني في مركز أي عملية سلام مقبلة، وأنه من غير المعقول أن تستقر الأوضاع في المنطقة بدون توفير الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من الجهود العربية المتعددة إلا أن وقوف مصر والأردن بوصفهما أقرب البلدان العربية لفلسطين على المستويين الشعبي والرسمي، في ظل الرعاية المصرية لجهود إنهاء الانقسام والوصاية الأردنية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وسجلت القمة إدراكًا عربيًا لمساعي تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف لإقامة الهيكل المزعوم، بداية بتقسيمه زمنيًا (بين أعياد المسلمين واليهود) أو مكانيًا (بسيطرة المستوطنين اليهود على بعض أبوابه ومداخله)، وفي ذلك السياق أكدت القمة على مكانة الحرم "بكامل مساحته البالغة 144 دونمًا كمكان عبادة خالص للمسلمين"، وأن إدارته وتنظيم شؤونه اختصاص حصري لإدارة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك، والتي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية.
(*) تأمين الدعم الدولي: أكدت القمة على أهمية التواصل المستمر مع القوى الدولية الرئيسية والأطراف المهتمة بالسلام، للمساهمة في تأمين الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وبناء مسار جاد، يتضمن وضع آلية واضحة وجدول زمني محدد، لإعادة إحياء مفاوضات السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لا يتجاوز الأطر الشرعية الدولية، فضلًا عن الضغط على إسرائيل لإلزامها بالتفاهمات الدولية التي وافقت عليها في اجتماعي العقبة وشرم الشيخ الخماسيين بمشاركة الولايات المتحدة.
مجمل القول؛إن قمة العلمين المصرية الأردنية الفلسطينية تجدد التأكيد على أهمية التنسيق الثلاثي كقوة دفع رئيسية لإعادة الزخم العربي والدولي للقضية الفلسطينية في ظل جهود القيادة المصرية الحثيثة لتوحيد الصف الوطني الفلسطيني والتغلب على دائرة إدارة الصراع التي استفادت من الانقسام الفلسطيني، واعتبرته ذريعة لفشل حل الدولتين، بينما ساهم تراجع الدعم الدولي للقضية والسماح بتسويف استئناف مفاوضات السلام ابتداءً، فرصة لتقوية المعسكر المتطرف في السياسة الإسرائيلية والذي لا يشترك مع الطرف الفلسطيني في أي أسس لحل القضية.