في الثالث والعشرين من يناير الجاري، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر الفيديو كونفرانس، تدشين الوحدة الرابعة لمحطة الضبعة النووية، التي تقيمها مصر بالتعاون مع روسيا الاتحادية.
وعليه، تطرح دلالة توقيت صب خرسانة المفاعل الرابع بالمحطة، وحرص بوتين على المشاركة في عملية تدشين الوحدة الرابعة، عدة تساؤلات، لعل أهمها: ما العائد الاقتصادي من محطة الضبعة النووية؟ وكيف تؤثر على نقل الخبرات التكنولوجية للعامل المصري؟
الجدير أن "السيسي" و"بوتين" وقعا على اتفاق إنشاء أول محطة نووية في مصر في منطقة الضبعة على الساحل الشمالي المصري في الـ 11 من ديسمبر 2017، خلال زيارة الرئيس الروسي مصر، والتي كتبت نسختها الأولى في عام 2015؛ بهدف توليد الكهرباء، وبتنفيذ الشركة الروسية"روس آتوم" الرائدة في مجال الطاقة النووية السلمية.
ماهية المحطة:
يُمكن كشف ملامح محطة الضبعة النووية من خلال مجموعة من النقاط، كالآتي:
(-) مراحل تصميم المحطة: يتم تنفيذ مشروع المحطة من خلال ثلاث مراحل أساسية، الأولى بدأت من ديسمبر 2017، إذ كانت تمثل المرحلة التحضيرية للمشروع، وتُغطى الأنشطة التي تعمل على تجهيز وتهيئة الموقع لإنشاء المحطة النووية، واستمرت هذه المرحلة من 2.5 عام إلى أربعة أعوام، والثانية تبدأ بعد الحصول على إذن الإنشاء، ويتم في هذه المرحلة تجهيز البنية التحتية للمحطة وتدريب العاملين والبدء في اختبارات ما قبل التشغيل، وتستمر هذه المرحلة لمدة 5 سنوات ونصف السنة، وتختص المرحلة الأخيرة باختبارات ما قبل التشغيل التي تصل مدتها إلى 11 شهرًا، وبدء التشغيل الفعلي، وتستمر هذه المرحلة حتى إصدار ترخيص التشغيل، وعليه يتضح من خطة تنفيذ المحطة أن الدولة المصرية، وضعت برنامجًا مُخططًا زمنيًا، ومُحدد الأهداف، وهو ما يدل على المنهجية في تنفيذ خطط المشروعات القومية للدولة.
(-) القدرة الإنتاجية للمحطة: صُمِمَت محطة الضبعة على أن تعمل خلال 24 ساعة، أو ساعات متواصلة من الإنتاج، وهو ما يعني أن القدرة الإنتاجية للمحطة كبيرة للغاية، وتبلغ الطاقة الحرارية في المحطة 3200 ميجاوات، بينما تبلغ الطاقة الكهربائية 1194 ميجاوات، وأوضح الرئيس الروسي" فلاديمير بوتين" أن المحطة تنتج سنويًا 4800 ميجاوات من الطاقة الكهربائية، أي نحو 10% من الاستهلاك المحلي، وهو ما يوضح القدرة الإنتاجية المُتعاظمة لمحطة الضبعة النووية.
(-) تصميم المحطة: تتكون محطة الضبعة النووية من 4 وحدات من مفاعلات الماء المضغوط من الطراز الروسي (VVER-1200)، بقدرة إنتاجية 1200 ميجاوات لكل وحدة، كما يبلغ العمر التصميمي للمحطة أكثر من 60 عامًا، وصُمِمَت محطة الضبعة النووية من مجموعة من المباني الأساسية، هي مبنى التوربينات، مبنى التحكم، مبنى الملحقات، غرفة البخار، مبنى المفاعل، مبنى الأمان. الجدير بالذكر هنا أن المحطة صُممت وفقًا لمعايير الأمان العالمية، حيث تم اختيار نوع المفاعل والتكنولوجيا المستخدمة في بناء المحطة النووية وفقًا لعنصري الأمان والموثوقية، حيث جاءت التكنولوجيا المُستخدمة من نوعية الجيل الثالث التي تتوافق مع المتطلبات التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وما يؤكد ذلك اختيار المشروع من قبل الوكالة ضمن أفضل 3 مشروعات نووية من حيث البدء والانطلاق على مستوى العالم.
العائد الاقتصادي:
تتنوع العوائد الاقتصادية لمحطة الضبعة النووية كما سيتم توضيحه على النحو الآتي:
(*) تحقيق أمن الطاقة: أوضحت الأزمات الاقتصادية العالمية التي تجتاح العالم في الوقت الحالي، أهمية إدراك دول العالم لتحقيق اكتفائها الذاتي من الطاقة، وتقليل درجة التبعية للاقتصاديات الكبرى؛ حتى لا تتعرض لضغوطات مختلفة تؤثر بشكل سلبي على اقتصادها، وهو الأمر الذي أدركته الدولة المصرية وأثبتت أنها لم تكن بمعزل عن الركب العالمي، فمن خلال توضيح أسعار سلة أوبك التي يُشير إليها الشكل رقم (1) يُمكن القول إن أسعار هذه السلة شهدت تذبذبًا كبيرًا خلال الفترة من 2014 إلى يناير 2024، إذ انخفضت من 96,29 دولار للبرميل في يناير 2014 إلى 49,49 دولار للبرميل في يناير 2015، وتذبذبت ما بين الارتفاع والانخفاض خلال يناير 2015 إلى يناير 2020، حتى بدأت في الارتفاع من يناير 2020 إلى يناير 2022، حيث ارتفعت من 41,47 دولار إلى 100,08 دولار، بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، ثم انخفضت إلى 79,17 في يناير 2024، وقد أثر هذا التذبذب بشكل كبير على الاقتصاد المصري.
وعليه، وفي ظل عدم الاستقرار في أسعار الطاقة العالمية، سـتُسهم محطة الضبعة النووية في تحقيق أمن الطاقة للدولة المصرية، وتأمينها من التأثر بالأزمات العالمية، من خلال تنويع مصادر الطاقة، فالمحطة ستوفر 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، وهو ما سيجعل إنتاج الغاز الطبيعي يزداد في الدولة المصرية بقدر كبير، ومن هنا ستزداد صادرات مصر منه بشكل أكبر ، ومن ناحية أخرى تُسهم محطة الضبعة النووية في إنتاج نوع آخر من الهيدروجين وهو الهيدروجين الأصفر الصديق للبيئة، وهو الأمر الذي يُدعم خطط الدولة المصرية في توطين مصادر الطاقة المتجددة داخلها.
(-) تطوير الصناعة المصرية: يتمثل التأثير الأكبر لمحطة الضبعة النووية في مساهمتها في تطوير الصناعة المصرية، وهو ما يتضح من أن المكون المحلي في المحطة يزداد الاعتماد عليه، حيث أنه في المرحلة الأولى كانت نسبة المكون المحلي في المحطة 20%، وفي هذه المرحلة ارتفعت النسبة إلى 35%، وهو الأمر الذي ينعكس على تحسين جودة الصناعات المطلوبة بشكل كبير، خاصة الصناعات التي تحتاجها المحطات النووية، فالصناعة المطلوبة للطاقة النووية تتطلب أن تتوفر فيها معايير الجودة العالمية بصرامة شديدة، فالمعدات الكهربائية والميكانيكية التي تحتاجها المحطة لابد أن تكون على مستوى عالٍ من التكنولوجيا، وهو الأمر الذي سيُلقي بظلاله على الصناعة المصرية، بأن ترتفع القيمة المضافة لها في الاقتصاد المصري.
(-) تدفق وتوفير العملة الصعبة: يسهم بناء محطة الضبعة النووية، بشكل كبير في توفير العملة الصعبة داخل الدولة المصرية، إذ تبلغ تكلفة المحطة 25 مليار دولار، ويظهر استفادة السوق المصري من تدفق هذه الدولارات، من أن التحويلات الخاصة بالمحطة، تعد جميعها تحويلات مؤجلة، بمعنى أن مصر ستُسدد قيمة هذه المحطة بعد أن يتم تشغيلها، كما ستبلغ مدة سداد القرض الروسي 35 عامًا، وهو الأمر الذي يدل على تسهيلات السداد التي توفرها روسيا للدولة المصرية، وبالتالي ستستفيد الدولة المصرية خلال هذه الفترة من الـ25 مليار دولار تكلفة المحطة، بإعادة تدويرها داخل السوق المصري وفي عجلة الإنتاج، وهو ما يُساعد في توفير الدولار في السوق المصري، ومن ناحية أخرى ستُساعد المحطة على الحد من التدفقات الدولارية الخارجة من الدولة المصرية؛ للوفاء بالتزامات استيراد الطاقة، فقد بلغت قيمة واردات مصر من النفط 2,9 مليار دولار خلال الربع الأول من العام المالي 2023-2024، وبالتالي يُمكن توفير هذه القيمة مع التشغيل الكامل للمحطة.
(-) نقل الخبرات التكنولوجية: من المؤكد أن يساعد التعاون المصري الروسي في العديد من المجالات، وتواجد العديد من خبراء الطاقة النووية في مصر، في نقل الخبرات التكنولوجية للعامل المصري بشكل كبير، خاصة العاملين في المحطة، فهذه المحطة يتطلب تنفيذها مستوى عاليًا من التكنولوجيا، فشركة روس آتوم تستخدم أحدث الحلول التكنولوجية في المحطة، وهو الأمر الذي سيعمل على توطين التكنولوجيا الحديثة والمتطورة داخل الدولة المصرية.
(-) خفض معدلات البطالة: من المرجح بقوة أن تُسهم محطة الضبعة النووية بقدر كبير في توفير فرص العمل داخل الدولة المصرية، إذ صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن هناك 16 ألف عامل يعملون في المحطة، أغلبهم من المصريين، وهو الأمر الذي سيعمل على زيادة معدلات التشغيل داخل الدولة المصرية، مما سيُخفض معدلات البطالة ونسب الإعالة في الدولة بشكل كبير.
(-) إنتاج النظائر: من الفوائد الاقتصادية الكبيرة للطاقة النووية إنتاج النظائر، التي تبرز أهميتها في أنها تدخل في المجال الطبي والتشخيص العلاجي، كما أنها تُسهم في المجال الصناعي التكنولوجي، إذ لا توجد صناعة متطورة في العالم لا تستخدم النظائر المشعة في خطوات الإنتاج وفحص الجودة الصناعية، والكشف عن عيوب التصنيع، كما أنه من خلال هذه النظائر يُمكن صناعة محركات السيارات والإطارات،بالإضافة إلى استخدامها في معالجة المطاط ليكون مرن وشفاف، وفي جعل البلاستيك والخشب مقاوم للتآكل والخدش والحرق، وفي الزراعة يُمكن استخدامها في البحث عن المياه الجوفية، ونظرًا للأهمية الاقتصادية الكبيرة لهذه النظائر ، كانت الدولة المصرية تستوردها من الخارج، ففي عام 2020 استوردت مصر من السويد فقط بقيمة 10,58 ألف دولار عناصر كيمائية مشعة ونظائر مشعة، وفي عام 2021 بلغ إجمالي الواردات من العناصر الكيماوية المشعة والنظائر المشعة ومركباتها 3,1 مليون دولار بالمُقارنة بـ 5,9 مليون دولار في عام 2020 كما يوضح الشكل رقم (2)، وفقًا لآخر بيانات للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو الأمر الذي يعني أن مع اكتمال مراحل تنفيذ محطة الضبعة النووية، ستوفر الدولة المصرية هذه الدولارات وستحصل على إيرادات دولارية من تصدير هذه النظائر والعناصر الكيماوية المشعة.
(-) خفض الانبعاثات الكربونية: يخدم البعد البيئي لمحطة الضبعة النووية، بشكل كبير إجراءات الدولة المصرية؛ للحد من تغيرات المناخ، إذ إن المحطة تعمل على خفض الانبعاثات الكربونية، ويُقدر هذا الخفض بنحو 14 مليون طن سنويًا، فخلال عام 2016 أنتجت مصر نحو 310 ملايين طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون الذي يُعتبر سبب أساسي لانبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحراري، ولكن ستنخفض هذه الانبعاثات مع اكتمال مشروع محطة الضبعة النووية، فمن المتوقع أن تنخفض بنخو 140 مليون طن بعد 10 سنوات من بدء تشغيلها، وهو الأمر الذي سيُسهم في تحقيق هدف الدولة المصرية المتمثل في خفض الانبعاثات بنسبة 33% مع حلول عام 2030، بالإضافة إلى ذلك أن محطات الطاقة النووية لا تطلق أي ملوثات، كما أنها لا تستهلك أي من الأكسجين الموجود في الجو.
وعليه، فإن عوائد الوفورات الخارجية لمحطة الضبعة النووية تفوق العائد المباشر للمحطة، إذ يتبين من السرد السابق أن محطة الضبعة النووية ستوفر عائدات تزيد عن تكلفتها بدرجة كبيرة، وهو ما يؤكد أن مشروع هذه المحطة يُعد من المشروعات القومية الكبرى في الدولة المصرية.
في النهاية، يمكن القول إن محطة الطاقة النووية التي تنُفذها الدولة المصرية في الوقت الحالي، تعكس الرؤية الاستباقية للقيادة السياسية في استقراء المستقبل، والنظرة المتعمقة للتحديات العالمية، خاصة في مجال الطاقة، إذ تتجه معظم الدول في الوقت الحالي إلى تحقيق أمن الطاقة والاكتفاء الذاتي منها، وهو الأمر الذي تسعى إليه الدولة المصرية بكل قوة، وعليه فإن التعاون المصري الروسي في إنشاء هذه المحطة النووية في مصر سيٌحقق للاقتصاد المصري العديد من العوائد الإيجابية، وستزداد تنافسيته بين اقتصاديات العالم.