على مدى خمسة أيام، اختتمت اليوم النسخة الرابعة والخمسون للمنتدى الاقتصادي العالمي. ورغم الملفات الاقتصادية العالمية الشائكة، ألقت النزاعات الدولية والقضايا السياسية المعقدة؛ ومنها التطورات في البحر الأحمر وكذلك في قطاع غزة واستمرار الحرب في أوكرانيا، بظلالها على فعاليات المنتدى، الذي سبق انعقاده بيوم اجتماع لمستشاري الأمن القومي في 83 دولة.
فيبدو أن أجندة أعمال منتدى دافوس هذا العام ليست اقتصادية خالصة، وعكست إلى حد بعيد التطورات الجيوسياسية على مستوى العالم، وما ارتبط بها من أزمات اقتصادية كبرى. وهو الأمر الذي قد يجعل من المنتدى في هذا العام، فرصة للتقارب وإيجاد الحلول للعديد من المخاطر والقضايا العالمية.
في ضوء ما سبق، تُثار العديد من التساؤلات التي يأتي في مقدمتها: ما أهم المخاطر والقضايا العالمية ذات الأولوية في المنتدى الاقتصادي العالمي بـ"دافوس"؟ وإلى أي مدى يمكن أن يشكل هذا المنتدى آلية عالمية للحوار بين مختلف الأطراف للتغلب على المخاطر والصراعات الدولية؟.
يذكر أن النسخة الماضية من المنتدى، حملت عنوان "التعاون في عالم متشرذم"، أما النسخة الحالية فعنوانها هو "إعادة بناء الثقة"، بما في ذلك ترسيخ مبادئ الشفافية والاتساق والمسؤولية. وتمثل نسخة هذا العام امتدادًا لنسخة العام الماضي؛ فالنسختان تعكسان الواقع العالمي المعاش المتعدد النزاعات والمخاطر في الوقت الراهن، والذي يتطلب التعاون والتكاتف لحل الصراعات والتعامل مع المخاطر والأزمات في عالم متشرذم يحتاج إلى استعادة الثقة بين أطرافه؛ ليتمكن من تحقيق ذلك على أرض الواقع.
تآكل الثقة:
قال ميريك دوسيك، المدير الإداري للمنتدى الاقتصادي العالمي، خلال فعاليات المنتدى، إن "موضوع هذا العام يأتي استجابة مباشرة لحالة تآكل الثقة الواضحة في المجتمعات وبين الدول". وأضاف أن البعض قد يربط الأمر مباشرة بـ"التحولات العميقة من حولنا، سواء أكانت جيوسياسية أو جيواقتصادية أو تلك المتعلقة بالمناخ والطبيعة". وعلى ما يبدو أن تآكل الثقة ليس فقط فيما بين الدول المتنازعة أو المتحاربة، وإنما بين المواطنين والحكومات في دول عديدة. ويمكن تفسير حالة تآكل الثقة تلك في ظل المخاطر العشرة التي يناقشها المنتدى، تتصدرها المعلومات المضللة والمغلوطة، تليها أحوال الطقس المتطرفة، والاستقطاب المجتمعي المعروف بظاهرة الشعبوية، وانعدام الأمن السيبراني، والنزاع المسلح بين الدول، وانعدام الفرص الاقتصادية، والتضخم، والتهجير القسري، والانكماش الاقتصادي، والتلوث. ويمكن توضيح بعض المخاطر الممتدة التأثير فيما يلي:
(*) تباطؤ النمو الاقتصادي وأزمة تكاليف المعيشة المستمرة: يؤثر ذلك وسط ارتفاع أسعار الفائدة بشدة، على الناس في جميع أنحاء العالم. وقد حذر البنك الدولي مؤخرًا من أن الاقتصاد العالمي في طريقه لإنهاء عام 2024 كأبطأ نصف عقد من نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ 30 عامًا.
وبينما انحسرت المخاوف من الركود العالمي بفضل النمو القوي في الولايات المتحدة، فإن هناك مخاوف من أن تؤدي التوترات الجيوسياسية المتصاعدة إلى عرقلة عملية التعافي. كما أدى تباطؤ نمو الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إلى قتامة التوقعات في العديد من البلدان النامية في إفريقيا وآسيا.
(*) وصول الديون إلى مستويات غير مسبوقة: من القضايا الأخرى التي هيمنت أيضًا على جدول الأعمال، المستويات الهائلة من الديون التي تراكمت على الاقتصادات النامية -وكثير منها في إفريقيا- خلال السنوات الأخيرة للتعامل مع أزمات متعددة، مثل جائحة كوفيد-19 ونقص الطاقة وتغير المناخ. فاليوم، يعيش 3.3 مليار شخص في بلدان تنفق على مدفوعات الفائدة أكثر مما تنفقه على التعليم أو الصحة، وفقًا للأمم المتحدة. وتقرّ العديد من البلدان النامية بأن خزائنها المالية تتعرض لضغوط وسط ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة وارتفاع تكاليف الاقتراض.
وتأتي حالة الاقتصاد وأزمة الديون، على رأس جدول أعمال القادة الأفارقة الذين حضروا القمة بأعداد كبيرة، وعلى رأسهم الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو ونظيره الكيني وليام روتو. وقال ليونارد ستيجلر من Africa Collective، وهي منصة لتعزيز المصالح الإفريقية للمستثمرين العالميين: "عندما يتعلق الأمر بإفريقيا، فإن المسألة لا تزال تتعلق ببناء الثقة في القارة كمركز حيوي ونابض بالحياة، كما يتعلق بالفرص الحالية والمستقبلية، وخاصة العائد الديموغرافي". وأوضح أنه عندما يتعلق الأمر بخلق فرص عمل في المستقبل، وإطلاق العنان للقوى العاملة في المستقبل، فإن إفريقيا هي مكان يجب النظر إليه، وهذا أمر يتطلع القادة الأفارقة إلى تعزيزه.
مخاطر عالمية:
يواجه العالم العديد من المخاطر الجديدة، والتي قد تتفاقم تداعياتها مستقبلًا بما يؤدي إلى زيادة تآكل الثقة على المستوى العالمي بين الأطراف الدولية الفاعلة، ويمكن تحديد هذه المخاطر في ما يلي:
(-) مخاطر الذكاء الاصطناعي: صنف مسح سنوي للمخاطر نشره المنتدى الاقتصادي العالمي مؤخرًا، المعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة التي ينتجها أو يحركها الذكاء الاصطناعي كأكبر عوامل الخطر في العامين المقبلين. ووفقًا لنتائج هذا المسح فإن العلاقة بين المعلومات المزيفة والاضطرابات المجتمعية، ستحتل مركز الصدارة هذا العام عندما تتوجه الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند إلى صناديق الاقتراع.
ويأتي ارتفاع وتيرة انتشار الأخبار الزائفة على رأس المخاوف في صفوف الحشد المشارك في أعمال المنتدى، مما يؤشر إلى استمرارية هيمنة المخاطر السياسية على أعمال المنتدى، إذ يقوض الاستخدام الواسع النطاق للمعلومات المضللة والمغلوطة شرعية الحكومات المنتخبة حديثًا، ويؤجج احتجاجات عنيفة، وربما يعزز الإرهاب، بحسب المنتدى.
(-) مخاطر حالة عدم اليقين وعدم المساواة في الاقتصاد العالمي: لاتزال آفاق الاقتصاد العالمي ضعيفة ومليئة بعدم اليقين، وفقًا لأحدث تقرير لتوقعات كبار الاقتصاديين صدر مؤخرًا، إذ يواصل الاقتصاد العالمي مواجهة الرياح المعاكسة الناجمة عن الظروف المالية الصعبة والخلافات الجيوسياسية والتقدم السريع في الاقتصاد العالمي والذكاء الاصطناعي.
وجاء في التقرير -الذي نشره الموقع الرسمي لمنتدى دافوس الاقتصادي العالمي هذا الأسبوع- أن أكثر من نصف كبار الاقتصاديين (56%) يتوقعون أن يتضاعف الاقتصاد العالمي هذا العام، بينما يتوقع 43% منهم عدم تغيير الظروف أو أن تصبح أقوى، وتعتقد أغلبية كبيرة أيضًا أن أسواق العمل سوف تتحسن بـ(77%) والأوضاع المالية بنسبة (70%) خلال العام المقبل، وعلى الرغم من تراجع توقعات التضخم المرتفع في جميع المناطق، إلا إن توقعات النمو الإقليمي تتباين بشكل كبير، كما أنه من غير المتوقع أن تشهد أي منطقة نموًا قويًا للغاية في عام 2024.
وفي ظل التباين المتسارع، ستظل مرونة الاقتصاد العالمي محل اختبار في العام المقبل، وعلى الرغم من تراجع التضخم العالمي وتباطؤ النمو وبقاء الظروف المالية صعبة، فضلاً عن تفاقم التوترات العالمية، وتزايد عدم المساواة، ما يسلط الضوء على الحاجة الملحة للتعاون العالمي لبناء الزخم من أجل النمو الاقتصادي المستدام والشامل. فتوقعات كبار الاقتصاديين، تسلط الضوء على الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للبيئة الاقتصادية الحالية.
ويتوقع نحو 7 من كل 10 من كبار الاقتصاديين أن الجغرافيا السياسية، ستؤدي إلى تأجيج التقلبات في الاقتصاد العالمي (87%) وأسواق الأسهم (80%) وزيادة التوطين (86%) وتعزيز الكتل الجيواقتصادية (80%) واتساع الفجوة بين الشمال والجنوب (57%) في السنوات الثلاث المقبلة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن توقعات كبار الاقتصاديين سالفة الذكر تستند إلى أحدث أبحاث تطوير السياسات، بالإضافة إلى المشاورات والدراسات الاستقصائية مع كبار الاقتصاديين من القطاعين العام والخاص والتي ينظمها مركز الاقتصاد والمجتمع الجديد التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، ويهدف التقرير إلى تلخيص الملامح الناشئة للبيئة الاقتصادية الحالية وتحديد الأولويات لمزيد من العمل من جانب صناع السياسات وقادة الأعمال استجابة للصدمات المركبة التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي.
(-) تسارع وتيرة التحول في مجال الطاقة: إن وتيرة التحول في مجال الطاقة ستقررها إلى حد كبير دول الاقتصادات الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهي أكبر الدول المصدرة لانبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، ومن المتوقع أن تبلغ الانبعاثات في الصين ذروتها بحلول عام 2030. فوفقًا لتقرير منتدى الاقتصاد العالمي لعام 2024، سيصل الطلب على الوقود الأحفوري إلى ذروته بحلول عام 2030، كما ستتفوق مصادر الطاقة المتجددة على الفحم كمصدر رئيسي للكهرباء بحلول عام 2025. كذلك، فإنه من المرجح أن تهيمن الطاقة الشمسية على أسواق الكهرباء في الفترة المقبلة، فيما تولّد كل من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أكثر من 10% من إجمالي الطاقة الكهربائية، وتمثلان نحو 75% من القدرة الجديدة لتوليد الطاقة.
اتجاهات متعاكسة:
تأسيسًا على ما سبق، وفي ظل التحديات العالمية الاقتصادية المحتملة تزايد حدتها خلال الفترة المقبلة، تضاف الضغوط على الدول المشاركة في المنتدى، وعليه تباينت آراء المتخصصين بشأن مدى قدرة المنتدى على مواجهة المخاطر والتحديات سالقة الذكر. فيرى ماهر نقولا الفرزلي، مدير عام المعهد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، أن ثمّة فجوةٌ شاسعة تفصل أجندة المنتدى الاقتصادي العالمي عن واقع العالم على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن "دافوس" بات أقل أهمية مما كان عليه في الماضي، بدليل أن الرئيسين الأمريكي والصيني لم يحضراه. ويرى كذلك أنه كان من الأجدى للمنتدى اتخاذ قضية تباطؤ النمو الاقتصادي حول العالم كأولوية بدلًا من القضايا الأخرى كالمعلومات المضللة، كما رجّح ألاّ يصدر عن المؤتمر أي حلول للقضايا الجيوسياسية التي تعوق النمو نظرًا لغياب الطرفين الأمريكي والصيني. كما لفت إلى أن لائحة الحضور تُظهر أن نسبة الرؤساء التنفيذيين الذين يحضرون النسخة الحالية من المنتدى أدنى بكثير مما كانت عليه في السنوات السابقة.
وعلى الجانب الآخر، يرى البعض أن هذا المنتدى لعب دورًا في حلحلة عدد من القضايا السياسية والمالية والصحية، من بينها توطيد السلام بين تركيا واليونان إثر اجتماعات بين رئيسي الوزراء التركي تورجوت أوزال واليوناني أندرياس باباندريو على هامش المنتدى في 1988، وإصلاح النظام المالي العالمي في أعقاب الأزمة المالية التي أثرت على الأسواق الناشئة وخاصة آسيا في التسعينيات. كما اتخذ التحالف العالمي للقاحات والتحصين المناعي في عام 2000 من المنتدى فرصةً لإطلاق برامج تلقيح ملايين الأطفال ضد الأمراض.
وقد أطلق منتدى دافوس عددًا من المبادرات خلال العام الماضي، شملت توظيف أكثر من 54 ألف لاجئ عبر "تحالف توظيف اللاجئين"، واستخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بحرائق الغابات عالميًا في ظل تكلفتها المرتفعة التي تتخطى 50 مليار دولار سنويًا، وإطلاق تحالف لتحسين جودة الهواء عبر سلاسل التوريد العالمية، في وقت يعيش 99% من سكان العالم في أماكن تتجاوز فيها مستويات التلوث الحدود الآمنة لمنظمة الصحة العالمية. كما أطلق مبادرة لتمويل مشروعات الطاقة المتجددة في بعض الاقتصادات الناشئة والنامية مثل البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وجنوب إفريقيا. كذلك، واصل المنتدى العام الماضي مساهمته في التحالف العالمي لتعزيز القدرة التنافسية في تجارة المنتجات الزراعية والغذائية في البلدان النامية والأقل نموًا ونجح التحالف في تنفيذ 14 مشروعًا في هذا الإطار.
في النهاية، يمكن القول إن النزاعات والمخاطر العالمية الكبرى التي يشهدها العالم اليوم -من الاضطرابات الجيوسياسية، إلى معوّقات نمو الاقتصاد العالمي، وصولًا إلى آفاق ومخاطر الذكاء الاصطناعي، وتغيّرات المناخ- قد تفوق قدرة المشاركين في الاجتماع السنوي لمنتدى دافوس الاقتصادي هذا العام على إيجاد الحلول والتسويات المطلوبة للتعامل مع هذه المخاطر وتلك النزاعات. وهو الأمر الذي يمكن تفسيره في ضوء حدة النزاعات والمخاطر الدولية الآنية في ظل حالة غير مسبوقة من الاستقطاب الدولي بين أهم الفاعلين الدوليين. ورغم ذلك يشكل هذا المنتدى فرصة مهمة للتحاور بين مختلف الأطراف الدولية المعنية بهذه النزاعات والمخاطر بما يسهم في توفير أفق إيجابية تعزز السلام والأمن، بأبعادهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.