أجرى رئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزواني في 28 يوليو 2023، زيارة إلى الصين، لمدة خمسة أيام، التقى خلالها الرئيس الصيني شي جين بينج، وناقشا سبل دعم وتعزيز وتطوير علاقات التعاون بين موريتانيا والصين في المجالات كافة، خلال الفترة المقبلة، وفي اللقاء وقع الرئيسان الصيني والموريتاني على خطة بشأن دفع التعاون المشترك في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، كما قبِل الرئيس شي جين بينج دعوة نظيره الموريتاني لزيارة نواكشوط في الوقت المناسب، وفقًا لما أعلنته الرئاسة الموريتانية في بيان عبر صفحتها على موقع فيسبوك، وحضر "الغزواني" حفل افتتاح النسخة الصيفية الـ31 من دورة الألعاب الجامعية العالمية في مدينة تشنجدو، جنوب غربي الصين.
دلالات الزيارة
تنبع أهمية هذه الزيارة من توقيتها، إذ تأتي بالتزامن مع جملة من التطورات الجارية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومع تحرك عدة دول إفريقية إلى الصين، وفي المقابل تحرك صيني متزايد لتعزيز التعاون مع مختلف بلدان القارة الإفريقية بالمجالات السياسية والاقتصادية وأيضًا العسكرية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:
(&) عودة التحرك الموريتاني نحو الشرق: تعد هذه الزيارة هي الأولى للرئيس "الغزواني" منذ توليه مقاليد الحكم في أغسطس 2019، كما أنها تأتي بعد نحو خمس سنوات من آخر زيارة أجراها الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز إلى الصين في أغسطس 2018، وهو ما يعكس رغبة الدولة الواقعة في شمال غرب إفريقيا في تعزيز التحرك نحو الشرق، بل وتوطيد أواصر التعاون بين نواكشوط وبكين الممتدة منذ عشرات السنين، وهو ما ركزت عليه اللقاءات التي عقدها الرئيسان الموريتاني والصيني على هامش القمم العالمية التي شاركا فيها، أبرزها لقاؤهما على هامش "القمة العربية الصينية الأولى" التي انعقدت في ديسمبر 2022 بالعاصمة السعودية الرياض، وناقشا خلالها مبدأ الشراكة الناجحة القائمة بين بكين ونواكشوط، على أساس تحقيق المصلحة المشتركة بينهما.
(&) جهود موريتانية لإنجاح زيارة "الغزواني" الصين: سبق زيارة الرئيس الموريتاني إلى بكين، تحركات من قبل المسؤولين في الدولة الإفريقية، لتعزيز فرص نجاح هذه الزيارة، منها مباحثات وزير الزراعة الموريتاني "امم ولد بيباته" في 7 يوليو الماضي مع السفير الصيني بنواكشوط "لي بيجين"، حول أولويات التعاون بين البلدين في المجال الزراعي، وأكد الطرفان على أن الزراعة ستكون على رأس المجالات على طاولة مناقشات الرئيسين الموريتاني والصيني، وبجانب ذلك، فقد أعلن البرلمان الموريتاني في 22 يوليو الماضي، إنشاء فريق برلماني للصداقة (الموريتانية-الصينية)، يسهم في تعزيز علاقات التعاون بين البلدين بما يحقق تطلعات شعبيهما، وذلك بمناسبة مرور 58 عامًا على العلاقات الموريتانية الصينية.
(&) توجّه روسي لتعزيز التعاون مع الدول الإفريقية: ترجع أهمية الزيارة، إلى تزامنها مع مشاركة رئيس وزراء موريتانيا "محمد ولد بلال مسعود" في القمة الروسية الإفريقية التي انعقدت بمدينة سان بطرسبرج الروسية يومي 27 و28 يوليو 2023، والتي شارك بها 49 دولة إفريقية من أصل 54 على أعلى مستوى -رؤساء الدول والحكومات- وجاءت تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية"، كما أنها تأتي بعد 6 أشهر، من زيارة كانت الأولى من نوعها لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى موريتانيا مطلع فبراير الماضي، وهو الأمر الذي يؤكد الرغبة الروسية لتعزيز التعاون مع مختلف بلدان القارة الإفريقية، خاصة في ضوء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي لم تضع أوزارها حتى الآن.
(&) تحركات إفريقية صينية متبادلة لتعزيز التعاون المشترك: تأتي زيارة "الغزواني" بالتزامن مع تنامي التحركات بين الصين وعدد من الدول الإفريقية لتعزيز التعاون المشترك بمختلف المجالات، عكستها الزيارات المتبادلة على مستوى الرؤساء ورؤساء الحكومات سواء من الجانب الصيني أو الإفريقي، منها زيارة الرئيس الجزائري "عبد المجيد تبون" إلى الصين منتصف يوليو الماضي، والتي استمرت عدة أيام، ناقش خلالها الجانبان الجزائري والصيني سبل تعزيز العلاقات الثنائية المشتركة بين البلدين في مختلف المجالات.
وعلى الجانب الصيني، أعلنت وزارة الخارجية، في 19 يوليو 2023، عن جولة لكبير الدبلوماسيين الصينيين ووزير الخارجية الحالي وانج يي، إلى كل من جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا، خلال الفترة المقبلة، وهو ما يعبر عن رغبة صينية مُلحّة في تعزيز علاقات التعاون مع دول القارة السمراء.
أهداف الزيارة
في ضوء التطورات سالفة الذكر، يمكن القول، إن زيارة الرئيس الموريتاني إلى الصين، تحمل جملة من الأهداف والدوافع التي يرغب "الغزواني" في تحقيقها، يمكن إبرازها على النحو التالي:
(*) الحصول على دعم صيني لإنقاذ الاقتصاد الموريتاني: إن توجه "الغزواني" إلى الصين في هذا التوقيت، يحمل رغبة مُلحّة لدى الرئيس الموريتاني في تحسين الأوضاع الاقتصادية بالبلاد التي تشهد تراجعًا كبيرًا في ظل انتشار الفقر والبطالة، مما نجم عنها ارتفاع أسعار غالبية السلع الاستراتيجية، فضلًا عن زيادة اعتماد البلاد على الاستيراد من الخارج، فوفقًا لوسائل الإعلام الموريتانية، فإن نواكشوط تستورد نحو 60% من احتياجاتها من الخارج، ولذلك فإن "الغزواني" في هذا التوقيت الذي يعاني فيه غالبية الدول من حالة من الاضطراب الاقتصادي جراء الحرب الروسية الأوكرانية، بحاجة إلى دعم صيني يعالج مشاكل البلاد الاقتصادية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الموريتانية المقرر انعقادها في أكتوبر 2024، مع وجود تكهنات بأن "الغزواني" قد يخوض هذه الانتخابات، ولذلك من الضروري تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية والمعيشية، لضمان التأييد الشعبي له بالانتخابات المقبلة.
ولعل هذا الدافع السبب الرئيسي في وجود "عبد السلام ولد محمد صالح" وزير الاقتصاد والتنمية المستدامة الموريتاني، ضمن الوفد المرافق لـ"الغزواني"، كما أن الرئيس الموريتاني أكد خلال مباحثاته مع نظيره الصيني على استعداد نواكشوط لتعزيز التعاون مع الصين بمجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة، وردّ عليه شي جين بينج بالتأكيد على "استعداد بكين للعمل مع موريتانيا للارتقاء بالتعاون العملي الصيني-العربي والصيني-الإفريقي إلى آفاق جديدة، لبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية"، كما أضاف قائلًا إن "الصين تشجع وتدعم المزيد من الشركات الصينية في المشاركة في التعاون مع موريتانيا في مجالات مثل البنية التحتية والطاقة".
(*) الارتقاء بالعلاقات الموريتانية-الصينية إلى آفاق جديدة: يعد هذا من أبرز الأهداف ذات الاهتمام المشترك لكلا البلدين، وقد كان محور مباحثات ثنائية بين الرئيس "الغزواني" مع رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانج خلال الزيارة، التي تمخض عنها اتفاق الطرفين على تعزيز التعاون البراجماتي في مجالات الزراعة والطاقة والبنية التحتية والتعدين والصحة والتعليم والمحليات وأيضًا المجال الحيواني، وذلك في ضوء مبادرات "التنمية العالمية" و"الأمن العالمي" و"الحضارة العالمية"، ولذلك تم التوقيع على "خطة لتعزيز التعاون في إطار مبادرة "الحزام والطريق" لتوسيع التعاون بالمجالات سالفة الذكر بشكل ينعكس إيجابيًا على مصالح البلدين والدفع بتطويرها وتعزيزها، وأكد "لي تشيانج" للرئيس "الغزواني"، أن "الصين ستواصل تقديم الدعم لتنمية موريتانيا وإنعاشها في حدود إمكاناتها".
(*) تعزيز التعاون الاستثماري والتجاري بين البلدين: تسعى موريتانيا من جراء هذه الزيارة إلى تعزيز التعاون بالمجالين التجاري والاستثماري مع بكين، ولذلك بحث "الغزواني" خلال زيارته سبل تشجيع الشركات الصينية على توسيع مجالات استثماراتها في القطاعات الاستراتيجية في موريتانيا وخاصة قطاع المعادن، كما أعلن الرئيس الصيني خلال مباحثاته مع نظيره الموريتاني، إعفاء نواكشوط "من 150 مليون يوان صيني (20 مليون دولار أمريكي) من ديون مستحقة عليها، وتوجيه الشركات الصينية إلى الاستثمار في موريتانيا، وفي الوقت ذاته فإن بكين هي الأخرى حريصة على تعزيز التعاون التجاري مع الدولة الإفريقية، وهو الأمر الذي تعمل الصين عليه مع مختلف بلدان القارة، إذ يعد العامل الاقتصادي والتجاري على رأس أولويات التدخل الصيني في القارة السمراء، وهو ما ساهم في وصول حجم التبادل التجاري بين الصين وموريتانيا إلي أكثر من 2.7 مليار دولار عام 2021، كما بلغ حجم الاستثمار الصيني المباشر في موريتانيا 31.87 مليون دولار، عام 2019، وفقًا لبيانات مرصد التعقيد الاقتصادي الدولي (OEC)، وهو ما يجعل بكين الشريك التجاري الأكبر بالنسبة لنواكشوط. ومن أبرز المشروعات الصينية في الأراضي الموريتانية، مشروع ميناء نواكشوط المستقل "ميناء الصداقة" (أكبر ميناء في موريتانيا)، ومشروع توسيع شبكة تزويد نواكشوط بالمياه من إديني، والمركز النموذجي لنقل تقنيات التنمية الحيوانية، والزراعة، وغيرها.
(*) توطيد أواصر التعاون الأمني والعسكري بين بكين ونواكشوط: من أبرز الأهداف التي تحملها هذه الزيارة، رغبة كل من الصين وموريتانيا في توسيع مجالات التعاون العسكري بين البلدين، خاصة في ظل موجة الإرهاب التي تضرب عددًا من بلدان القارة الإفريقية، وحالات تنحية الرؤساء المتزايدة في دول غرب إفريقيا، والتي كان آخرها في النيجر صباح 26 يوليو الماضي، بعدما أعلن الحرس الرئاسي الإطاحة بالرئيس محمد بازوم والسيطرة على البلاد، وهي المحاولة التي رفضتها موريتانيا بشدة، ويرجع هذا إلى التأثير المحتمل لأزمة النيجر على تزايد أعمال الإرهاب في باقي دول القارة وهو ما تتخوف منه نواكشوط، خاصة أنها تتقاسم مع نيامي "تجمعًا أمنيًا واقتصاديًا مشتركًا هو "مجموعة دول الساحل الخمس"، وفي ضوء ذلك فإن زيارة "الغزواني" قد ينجم عنها تعزيز مجالات التعاون الأمني بين بكين ونواكشوط لمواجهة أي تداعيات محتملة لأزمة النيجر على موريتانيا، وهو ما سترحب به الصين كون أن عدم استقرار دول القارة يؤثر سلبًا على أنشطتها الاستثمارية هناك.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن زيارة الرئيس الموريتاني "محمد ولد الشيخ الغزواني" إلى الصين بالتزامن مع التطورات الجارية على الساحتين الإقليمية والدولية، وخاصة في ظل الأزمات التي تضرب عددًا من دول القارة الإفريقية، تحمل رغبة خاصة لدى "الغزواني" في توجيه مسار السياسية الخارجية الموريتانية نحو تعزيز العلاقات مع بلدان الشرق خاصة "الصين وروسيا"، وفي ضوء ذلك قد تشهد العلاقات بين بكين ونواكشوط خلال الفترة المقبلة "قفزة كبيرة"، خاصة بعد التوقيع على خطة بشأن دفع تعزيز التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق، وبعد تعهد الرئيس الصيني بزيارة مرتقبة إلى موريتانيا، ستكون الأولى من نوعها في تاريخ تطوير العلاقات الصينية الموريتانية.