عام 1948 كان عامًا أسودًا في تاريخ فلسطين، هُجر المدنيون وسُرقت بيوتهم وممتلكاتهم، جرائم الإبادة كانت حاضرة، وهو السيناريو الذي يعيد نفسه جراء العداون الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، وربما "أسوأ"، بحسب شهادات الفلسطينيين ممن عاصروا الحربين.
تصريحات فلسطينية عدة، آخرها إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رفضه التام لأي محاولات تهجير تطال أي مواطن فلسطيني من قطاع غزة، أو الضفة الغربية المحتلة، خلال لقائه مع أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، الأربعاء الماضي.
التنديد لا يقتصر على المسؤولين الفلسطينيين وحدهم، بل امتد ليشمل قادة العالم والدول العربية، ولعل موقف مصر والأردن كان واضحًا قاطعًا برفض أي محاولات لتهجير الفلسطينيين سواء من غزة إلى مصر أو من الضفة إلى الأردن، ردًا على دعوات مسؤولي الدولة القائمة بالاحتلال، منذ بدء العدوان على غزة.
وبعد يوم واحد من تصريحات الرئيس الفلسطيني، حذّر جوزيب بوريل، منسق الشؤون الخارجية والسياسية للاتحاد الأوروبي "من تصريحات بعض ممثلي حكومة الاحتلال الإسرائيلية الداعية لجعل حياة المدنيين في غزة مستحيلة، وبالتالي إجبارهم في نهاية المطاف على المغادرة.
وأكد "بوريل" أن هذه القضية تؤدي لنتائج عكسية وخطيرة، وشدد على ضرورة حماية المدنيين في القطاع، مؤكدًا أن التلميحات بالتهجير القسري غير مقبولة على الإطلاق.
التهجير لم يتوقف منذ 1948، إذ ظل الاحتلال يمارس جرائمه، ويُهجر الفلسطنيين من منازلهم على مر السنوات الماضية.
رفص بالإجماع
في جلسته قبل يومين، تحديدًا أول أمس السبت، رفض مجلس الأمن الدولي، تهجير الفلسطينيين قسرًا من أراضيهم.
وفي الاجتماع الذي عقده المجلس لمناقشة خطر التهجير القسري، بطلب من الجزائر، وافق مجلس الأمن بالإجماع على مقترح الجزائر، بوقف تهجير الفلسطينيين، إذ شهدت الجلسة موقفًا موحدًا بين أعضائه.
وخلال الاجتماع، رسم مارتن جريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، صورة قاتمة للوضع الإنساني في غزة، بسبب انتشار الجوع والدمار وتكدس السكان في مناطق محددة غير آمنة، منها رفح التي كان يقطنها 240 ألف فلسطيني ووصل عدد قاطنيها إلى مليون بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي جاوز المئة يوم، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية.
ودعا السفير رياض منصور، مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة، لعدم التصعيد وإشعال المزيد من النار بل الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، مضيفًا أن الفلسطينيين يتمنون أن تسرع الدول لحماية الأطفال كما أسرعت لحماية السفن التجارية.
فيما حذر مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبنزيا، من خطر تهجير الفلسطينيين، مشيرًا إلى استشهاد نحو 23 ألف فلسطيني، إلى جانب المدفونين تحت الأنقاض.
عدد اللاجئين الفلسطنيين
يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين نحو 6 ملايين لاجئ، ما يجلعهم أحد أكبر التجمعات في العالم، ويعيشون داخل أراضي دولتهم أو في البلدان المجاورة.
وتسببت الحرب التي بدأت أكتوبر الماضي، في نزوح ما يقرب من 1.9 مليون شخص من شمال غزة ووسطه إلى رفح جنوب القطاع، بحسب موقع الأمم المتحدة.
وبدأت أزمة تهجير الفلسطينيين عام 1947، بعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 181، الذي كان يتضمن تقسيم فلسطين أو "أراضي الانتداب البريطاني"، إلى دولة عربية وأخرى يهودية.
وفي حرب عام 1948، طُرد نحو 750 ألف فلسطيني من أراضيهم (النكبة) التي استولت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثم بعد ذلك رفضت عودتهم إلى ديارهم، حتى استولت في وقت لاحق على الضفة الغربية المحتلة، بعد حرب عام 1967، ما أجبر 325 ألف فلسطيني آخر على النزوح والهجرة.
21 ألف لاجئ سنويًا
وعلى مدار السنوات التي تلت 1967، هجرت إسرائيل نحو 21 ألف فلسطيني سنويًا من المناطق التي تسيطر عليها، رافضة أي مطالب بعودتهم كجزء من أي اتفاق سلام، بحسب "بي بي سي".
شهادات حية
ربما يكون التهجير أمرًا جديدًا للبعض، لكن شهادات حية لمواطنين هجرهم الاحتلال بعد نكبة 1948، كشفت الكارثة التي يعيشها الغزاويون هذه الأيام.
العجوز الفلسطينية، ليغة جابر، التي أجبرها الاحتلال على التهجير مرتين، غادرت كل ما تحب في طفولتها، والآن حملت أحفادها وتركت أرضها ورائها ثانية بسبب الحرب الغاشمة التي يشنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة، بحسب وكالة "فرانس برس".
العجوز الفلسطينية، كانت تعيش في جولس بعسقلان إبان نكبة 1948، وقتها كان عمرها 13 عامًا، إلا أنها تقول إن الحرب الحالية أقسى وأصعب، بحسب الوكالة.
تقول "جابر"، الجالسة في منزل يؤوي نازحين في مدينة رفح، وحولها أحفادها وأولادها، إن الحال في 1948 لم يكن كذلك: "لم يقتلونا في نكبة 48، كنا نمشي وكنت حينها صغيرة. اليوم يضرب الاحتلال بالطيران ويهدمون كل البيوت".
جلست جابر، إلى طاولة خشبية، وبجانبها أدويتها، مُعربة عن خوفها: "لأكون صريحة أنا خائفة، لم أر حربًا كهذه، يضربون بالطيران ويهدمون المنازل بمن فيها، كما أن أصوات الطائرات المسيرة لا يفارق أجواء المدينة الواقعة جنوب القطاع.
حال "جابر"، لا يختلف كثيرًا عن المسنة رايقة أبو عويضة، المولودة في عام 1935 بقرية المجدل، الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا، فقبل أكثر من 70 عامًا اضطرت هي وأشقاؤها للمشي وهم يجرون بقرتين لعشرات الكيلو مترات، حتى وصلوا قطاع غزة، وتحديدًا بيت لاهيا ثم القرارة ودير البلح، قبل أن يستقروا في خان يونس.
هُجرت "أبو عويضة"، للمرة الثانية، خلال الحرب الحالية، إذ نزحت من خان يونس إلى رفح حنوب القطاع، لتقطن مع ابنتها.
لم يختلف رأي أبو عويضة عن "جابر"، فكلاهما ترى أن الحرب التي بدأت قبل نحو 100 يوم أكثر صعوبة وقسوة من نكبة 1948.
تخشى العجوز من بدء جيش الاحتلال الإسرائيلي في قصف رفح، مؤكدة أنها لن تترك فلسطين وأرضها حتى لو قتلوها.
حلم العودة
ورغم اقتناعه باستحالة الأمر، لا زال يحلم جمعة أبو قمر "80 عامًا"، بالعودة لقريته يبنا جنوب غرب مدينة الرملة موطن مولده، التي عاش فيها حياته قبل حرب 1948.
يتذكر كيف كانت الأمور: "دارنا كانت كبيرة، سبعة دونمات وفيها شجرة تين"، بحسب الوكالة الفرنسية.
أكد "أبو قمر"، أنه عاصر كل الحرب، لكن الحرب الحالية "إبادة"، مضيفًا "لم نر نازحين في النكبة مثل اليوم، اليوم خيام كثيرة لم نر مثلها".