"الثائر الملهم" هكذا يمكن وصف الفنان والموسيقار اللبناني مارسيل خليفة، الذي أثر بفنه في الوطن العربي ووصل إلى العالمية، فهو صاحب الأنامل الذهبية والصوت القوي الذي لا يعرف الخوف، والحس المرهف الذي يرفض اليأس، فغنى للوطن والحرية والحب.
منذ الصغر اتخذ مارسيل خليفة، من فلسطين قضيته الأولى التي يدافع عنها بكلماته وموسيقاه، منذ عقود طويلة، نادي بحريتها وتغزل فيها، ووقف مدافعًا عنها منذ الطفولة، وحتى تجاوز السبعين عامًا، إذ يقول في حواره لـ موقع "القاهرة الإخبارية": "فلسطين تسكنني على هيئة قصيدة أو مظاهرة أو اجتماع أو نقاش أو موسيقى أو أغنية، أتذكر أنني شاركت في المظاهرات وأضربت مع رفاق الدراسة عن المدرسة تضامنًا مع فلسطين، وأنا بين الجموع أصرخ وقبضة في الهواء تلوّح: "بالدم بالروح نفديك يا فلسطين"، لم تكن لدينا معجزات، كانت لدينا مخيلة وأحلام".
"اخرجوا من أرضنا، من برّنا، من بحرنا، من قمحنا، من ملحنا، من جرحنا، من كل شيء"، هكذا ينادي مارسيل خليفة ويطالب الاحتلال الإسرائيلي بالخروج من أرض فلسطين، قائلًا: "إن للفلسطينيين وطنًا اسمه فلسطين، وهي الأرض التي أنشأ عليها الاسرائيليون دولتهم، إنها الأرض نفسها وليست أرضًا أخرى، إن الفلسطينيين هم أصحابها التي أقيمت عليها المستعمرات".
فلسطين لأبنائها
انفعل مارسيل خليفة مع ما يحدث من مجازر ضد سكان قطاع غزة وأطفالها، ولم يفقد الأمل في عودة الأرض لأهلها، ليؤكد أن أرض فلسطين ستعود لأبنائها يومًا ما، وأنه لا مفر من الحرية، قائلًا: "بالموت يرفع أطفال غزّة سماء جديدة لأحلامهم، يعيدون الأرض الهاربة، يختلط الواقع بالأسطورة في ذلك الزقاق، في تلك الساحة، يطلعون من أرضهم، يلعبون ويكتبون النشيد المغمّس بالدم والحياة، هذه الأرض لأبنائها منذ الأزل وإلى الأبد، كان الأولاد يعدّون السنين، وحبّات المطر، ليكبروا، هؤلاء المولودون على الخراب وعتبات الزنازين وعلى طرق غير معبدّة وفي زمن الاحتلال، هُمْ يدلّون التائهين على الطريق، يطلعون من هنا ومن هناك، من خيمة نازحة، من رصاصة، من كتاب، من تراب، من وطن الوطن، في وسع الهزائم أن تخلع خيامها وترحل إلى الجحيم، لأن هناك شعلة واحدة، مرفوعة على أصابع الأولاد في غزّة ومهما حشدوا لها من ليل جديد، لا مفرّ من الحريّة".
أبطال غزة يعزفون نشيد الحرية
في الوقت الذي يقف الاحتلال الإسرائيلي متجردًا من إنسانيته في قطع سبل الدعم عن سكان غزة، عبر مارسيل عن العزلة التي يعيش فيها أبناء القطاع حاليًا قائلا: "غزّة تقف وحدها في العاصفة تبحث عمّن يشبهها فلا تجد، وحدها في الفلاة – أي بأرض واسعة مُقفِرة لا ماء فيها- ترتعد وتنتفض، يكفي لهؤلاء الأبطال أن يعزفوا نشيد الحريّة حتى ينقذوا لحظة إنسانيّة حارة من الضياع في زحمة النسيان"، مطالبًا الجميع أن يدعموا المقاومة.
جداريّة الحياة والموت
كانت الأغنية هي الملاذ الآمن لمارسيل خليفة، للتعبير عما بداخله فنسخ بموسيقاه وكلماته حياة وعبر بفنه عن قضايانا العربية، إذ يقول: "بالأغنيات نحمي وحشتنا، فقدمت أغان "جواز السفر، تصبحون على وطن، منتصب القامة أمشي، إني اخترتك يا وطني، بالأخضر كفنّاه، وأندلس الحب" وغيرها، تبقى الموسيقى ملح القصيدة يمدّدها في الزمان كإكسير الحياة في جداريّة الحياة والموت التي أعمل عليها منذ سنتين، اتذكر يوم التجأنا إلى بيروت مجموعة من الشباب من قرانا في جبل لبنان لأن أحدًا لم يعد يحتمل ميولنا المتضامنة مع قضيّة فلسطين، نعم هكذا، جحيم هنا وجحيم هناك، أتساءل: هل أنا مصاب بكل هذا الحب ؟! أجيب نعم، فما الذي يبقى في عتمة الأيّام غير فلسطين القصيدة والأغنية والموسيقى".
يوم ممطر جمعني مع محمود درويش
شكّل مارسيل خليفة، رفقة محمود درويش "ثنائية مهمة"، فحوّل الأول قصائد وأشعار الثاني إلى أغانٍ عاشت مع الزمن ورددها العشاق، فتحولت الكلمات المجردة إلى لحم ودم يتنفسها الجمهور كما يتنفس الهواء، فيسرد مارسيل بداية علاقته بـ"درويش"، قائلاً: "أتذكر حينما التقيت محمود درويش لأول مرّة في يوم ممطر في بيروت، كان قلبه كالطفل في وجع قصيدته، تضرجّتُ خجلاً وأسمعته أغنية "وعود من العاصفة"، ثم قدمت أغنية "أحمد العربي" ومن وقتها أصبحت فلسطين أرض أغنيتي، ووزعت آلاف النسخ المؤلفّة من الأسطوانات الممنوعة من الاحتلال الإسرائيلي".
حول تقديمه جدارية محمود درويش يقول مارسيل: "راودتني فكرة تقديم موسيقاها منذ سنوات، بدأت بعزفها على عودي، كنت أعيش في عزلة بجزيرة نائية، وكنت أقوم بكتابة وتمزيق وتنقيح ما أكتب لكي أصل إلى ولادة جديدة لأغنية الجدارية، وكانت هناك رغبة من الشاعر محمود درويش في وضع الموسيقى للديوان الكامل عندما شاركته بأمسيتين فكان هو يقرأ الجدارية بينما أنا ألعب التقاسيم الأولى في قاعة الأونيسكو بباريس، والثانية والأخيرة في قصر الأونيسكو ببيروت في نهاية عام ١٩٩٩، كنت أريد ترك أثر وشهادة على تجربة مشتركة معه".
الشغف هو المحرك الرئيسي لمارسيل إذ يصف تجربته الشعرية والموسيقية قائلا: "كلما كتبت أحسست بأنني لم أكتب بعد، وكلما استمعت إلى ما كتبت شعرت بأنها ليست بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها والتي أسمعها بوضوح في الحلم وعندما أصحو تضجّ أذني بصمت مدوٍّ إلى ما لا نهاية فأعود وأضع نفسي في الريح والجنون، فليس في وسعي إلاّ أن أكون مجنونًا".