يشكل حدود تمرير البرلمان الكويتي لمشروعي قانون قانوني الدين العام والسحب من صندوق الأجيال خلال الأيام المقبلة، اختبارًا حقيقيًا، لمدى قوة العلاقة القائمة بين الحكومة الكويتية برئاسة الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح نجل أمير الكويت، وبين مجلس الأمة الذي تسيطر عليه المعارضة.
وعلى ما سبق، ووفقًا للمراقبين، يبقى السؤال وهو: هل تأخذ المعارضة في مجلس الأمة الكويتي اتجاه سياسة المقايضة للقبول بتمرير المشروعين، خاصة وأنها في السابق أبدت تحفظاتها على مشروعي القانون، وطالبت وقتها حكومة الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، بوضع خطة إصلاحية واضحة، أم أن فرص الحصول على موافقة نواب المعارضة في المجلس الحالي، وتمريرهم لمشروعي القانون تبدو سهلة دون تعثر؟
وبالتالي تتطلب الإجابة عن السؤال السابق، قراءة واقعية لتركيبة مجلس الأمة الكويتي، والعوامل المؤثرة في طبيعة العلاقة بين الحكومة الجديدة وبرلمان 2022، وهو ما يرتبط بالخطاب الأميري بشأن تصحيح مسار العملية السياسية، الذي يعتبر المحدد الرئيسي لمشهد ما بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما أخفق الحوار الوطني في إنهاء الأزمة بين الحكومة ومجلس الأمة 2020، الذي شهد ذروة المواجهات والخروقات في الممارسات الدستورية.
تركيبة مجلس الأمة:
على الرغم من التحولات الكبيرة التي شهدتها تركيبة مجلس الأمة 2022، جراء تغيير خارطة النواب بنسبة 54% عن تركيبة البرلمان السابق، لتشهد صعود نائبتين وعدد من النواب الشباب، دون وجود قوانين أو تشريعات حامية لتلك الفئات الأضعف، في مواجهة سيطرة التيار الإسلامي ومرشحي القبائل في الدائرتين الرابعة والخامسة الأكبر في عدد الناخبين.
(*) الإسلام السياسي: حصد تيار الإسلام السياسي بنسخته السُنية على 10 مقاعد من إجمالي 50 مقعدًا، انعكست في الحفاظ على مقاعد "الحركة الدستورية الإسلامية" المعروفة اختصارًا بحركة "حدس" وهي ممثل تنظيم الإخوان في الكويت، وتضمن النواب (أسامة الشاهين، وعبدالعزيز الصقعبي، وحمد المطر)، بجانب النائبين القريبين من التنظيم (فلاح ضاحي الهاجري وعبدالله فهاد). كما عاد التجمع الإسلامي السلفي إلى البرلمان ليحصل إلى جانب حلفائه 5 مقاعد للنواب (حمد العبيد، مبارك الطشة ومحمد هايف، عمار العجم، عادل الدمخي).
وفيما يخص نواب الإسلام السياسي الشيعي فقد حصل على 5 مقاعد من أصل 9 حصدها المكون الشيعي، ويمثلون 3 نواب لـ"التآلف الإسلامي الوطني" وهم أحمد لاري وهاني شمس وخليل أبل، والنائبين صالح عاشور، وخليل الصالح عن "تجمع العدالة والسلام".
(*) حضور القبائل: وحافظت القبائل على حضورها وتمثيلها مع تقاطع العامل القبلي مع العامل التنظيمي، خاصة لتيارات الإسلام السياسي في الدائرتين الرابعة والخامسة، حيث جاءت قبيلة العجمان في المقدمة بعدد 5 مقاعد، يليها قبيلة المطير بعدد 4 مقاعد، ثم قبيلة العوازم بعدد 3 مقاعد، لكن تقييد عمل الديوانيات والحشد القبلي عن طريق ما يُعرف بالانتخابات الفرعية أدى لنتيجتين مختلفتين، أولهما: فوز مرشحين قبليين قابعين في السجن لخرقهم الضوابط الجديدة التي أرساها الخطاب الأميري لتصحيح مسار العملية السياسية في يونيو 2022، وثانيهما: تراجع التمثيل القبلي كمؤشر عام ساد العملية الانتخابية خلال عقد ونصف، بالمقارنة بالانتخابات السابقة التي أفرزت هيمنة للقبائل على نحو 29 مقعدًا من إجمالي خمسين تصدرتها قبيلة العوازم بنحو 7 مقاعد تلتها قبيلة المطير التي حصد أبناؤها 6 مقاعد في انتخابات 2020.
(*) التكتلات والمجموعات النيابية: برزت كتلة الأربعة مكونة من حسن جوهر ومهند الساير وعبدالله جاسم المضف ومهلهل المضف، بعدما نجحت الحكومة في استقطاب خامسهم النائب بدر الملا، الذي تولى بعد تردد منصب وزير النفط، كما ظهرت مجموعة نيابية لتنسيق المواقف وتعزيز أجندة العمل البرلمانية، منها مجوعة الـ12 وتشمل نواب كتلة الأربعة، ونواب "حدس".
العهد الجديد:
جاءت سياسة تصحيح المسار السياسي بعدما أخفقت جلسات الحوار الوطني في تصحيح العلاقة بين حكومة الشيخ صباح الخالد ومجلس الأمة السادس عشر، والمنتخب في ديسمبر 2020، رغم نجاحها في تمرير قانون العفو العام عن كبار شخصيات المعارضة التي شاركت فيما يُعرف بواقعة اقتحام مجلس الأمة في 2012، وبعض المتهمين في قضية خلية العبدلي التي وجهت لها السلطات الكويتية اتهامات بالتعاون واكتناز أسلحة تتبع ميليشيا "حزب الله" اللبناني.
وخلافًا للمأمول ازدادت حدة المشاحنات خلال دور الانعقاد الثاني، الذي انتهى قبل موعده، نتيجة تعطيل الجلسات وتبادل الاتهامات بخرق القواعد والممارسات البرلمانية الراسخة، منها طلب الحكومة السابقة تأجيل أي استجوابات "مزمعة" لرئيسها ووزرائها لمدة عام، وهو ما كان عنوان لسخرية النواب حينها واعتبروها "حكومة المزمع"، واستيلاء نواب المعارضة على مقاعد الحكومة متهمين رئيسها ورئيس مجلس الأمة آنذاك مرزوق الغانم بخرق الدستور.
(#) المحددات: دشن الخطاب الأميري في 22 يونيو 2022، الذي ألقاه نيابة عنه، نائب الأمير وولي عهده الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، ملامح العهد الجديد التي ارتكزت على احترام الدستور وعدم خرق أحكامه، واحترام إرادة الشعب في حل المجلس، والاعتماد على وعي المواطنين في فرز نوابهم، بعيدًا عن المشاحنات الطائفية أو القبلية الجهوية وكذلك الشعارات والسلوكيات التي تهدد الوحدة الوطنية. وتضمنت سياسة تصحيح المسار، التعهد بعدم التدخل في انتخابات رئاسة مجلس الأمة، وتوجيه السلطتين التنفيذية والتشريعية بعدم التدخل في أعمال السلطة الأخرى مع حثهم على التعاون.
(#) نهج المرحلة الجديدة: هذا النهج عززه "النطق السامي" الذي افتتح به الشيخ مشعل، أولى جلسات الفصل التشريعي السابع عشر في 19 أكتوبر 2022، الذي عنونه بـ"وثيقة العهد الجديد" وحمل عبارات الشراكة بين سلطات الدولة وتأكيده أن مجلس الأمة "سيد قراراته"، ووضعه السلطتين التشريعية والتنفيذية أمام مسئوليتهما إزاء الشعب والقيادة السياسية.
(#) أولويات المرحلة: تمثلت أولويات العهد الجديد في التركيز على الحوكمة الرشيدة، انطلاقًا من برنامج عمل وخطة استراتيجية تلتزم الحكومة باتباعها وتخضع على أساسها لمراقبة البرلمان ومحاسبتها على أي تقصير أو إخلال بها، وتوجيه النواب لتلبية احتياجات الناخبين والنظر في قضاياهم، بديلًا عن الانشغال بالمصالح الخاصة والدفاع عن "الخارجين عن القانون".
اختبارات المرحلة:
إن الإجراءات والإدانات من القيادة السياسية لسلوك التعطيل وتدخل الحكومة من جهة والنواب من جهة أخرى في أعمال السلطة الأخرى، أسهمت في إعادة الأمور إلى نصابها في مجمل الحياة السياسية، لكن العلاقة بين الحكومة والمجلس النواب الجديد لم تخل من الاختبارات لمدى مرونة الطرفين والتزامهما بمحددات القيادة السياسية، وهو ما ظهر في "وثيقة القيم"المتضمنة أحكامًا اجتماعية سياسية محافظة يدعمها تيار الإسلام السياسي السُني بجانب المرشحين القبليين، التي تحايلت على الموقف الرسمي الرافض لنمط الانتخابات الفرعية وعززت موقف مرشحيهم عبر توقيعهم الوثيقة على الهواء وإضفاء طابع تنظيمي ورابط بين معدي الوثيقة والمرشحين الموقعين عقب انتخابهم.
وبعد الانتهاء من ملف العفو باتت المعارضة أقل قوة وتعرف بانتماءاتها السياسية ولا تعكس تحالفًا واسعًا متجانسًا في الاهتمامات والرؤى، بيد أن ذلك وحده لا يضمن بناء التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وترسيخ ممارسات العملية الديمقراطية في أحد أقدم الأنظمة السياسية الديمقراطية في الخليج العربي وعموم المنطقة العربية، وهنا يجدر النظر إلى القضايا والملفات محل الخلاف للوقوف على مستقبل تلك العلاقة.
(*) تفسير الدستور: قبيل انعقاد الجلسة الافتتاحية، ساد سجال حاد حول تأجيل انعقاد الجلسة، فيما أجلت حكومة الشيخ أحمد النواف، جلسة الانعقاد إلى 18 أكتوبر 2022، استنادًا إلى المادة 107 من الدستور التي سمحت بتأجيل الدعوة لدور الانعقاد السنوي لمدة لا تتجاوز شهرًا، في حين استند النواب إلى المادة 87 التي تحصر المدة الزمنية بناءً على دعوة الأمير لانعقاد الجلسة الافتتاحية، خلال أسبوعين من تاريخ الانتخاب، وإذا لم يصدر المرسوم خلال المدة المذكورة، اعتبر المجلس مدعوًا في أول يوم عمل عقب تلك المدة، أي يوم الأحد 16 أكتوبر 2022.
ونتيجة لذلك نفذ أربعون نائبًا في 16 أكتوبر، تظاهرة برلمانية بحضورهم إلى قاعة عبدالله السالم، حيث مقر المجلس لعقد الجلسة وسرعان ما رُفعت لعدم حضور الحكومة.
(*) اختبار الخطوط الحمراء: وتتمثل في عدم تدخل أي سلطة في عمل السلطة الأخرى، وهو ما حرصت الحكومة على تنفيذه من خلال عدم تدخل أعضاؤها في انتخاب رئيس المجلس والتزامها بتعهد القيادة السياسية بعدم التدخل في عملية الانتخاب، حيث يصوت الوزراء إلى جانب النواب في أغلب قرارات مجلس الأمة. وفي ذات الإطار تجاوزت الحكومة أول اختبار لها بعد رفض مجموعة كبيرة من النواب عودة وزراء حكومة الشيخ صباح الخالد، باعتبارهم مساهمين في خرق الدستور، فاستقالت الحكومة وأعاد الشيخ أحمد النواف تشكيل حكومته بعد مفاوضات شاقة، انتهت إلى توزير نائبين وهما نائب رئيس الوزراء وزير النفط، بدر الملا، المنضم في أحد أشرس تكتلات المعارضة غير الحزبية التي عُرفت في المجلس السابق بـ"كتلة الخمسة"، ووزير الدولة لشؤون مجلس الأمة وزير الدولة لشؤون الإسكان والتطوير العمراني النائب عمار العجمي.
(*) الحكومة الشعبية: يعد هذا الطرح على رأس أولويات أقصى أجنحة المعارضة البرلمانية الطامحة لتحقيق سابقة نيابية باختيار رئيس وزراء من خارج الأسرة الحاكمة، واتخاذ شكل الإمارة الدستورية التي يحتفظ فيها الأمير بمكانته كرئيس للدولة، فيما يتولى مجلس الأمة المنتخب السلطتين التشريعية والتنفيذية من خلال تشكيل حكومة نيابية.
معالم الاستجابة:
رغم المؤشرات السلبية وخلفية الممارسات السياسية التي سادت في الفترة الأخيرة وتأثيرها على معدل الاستقرار الحكومي، الذي لم يتجاوز بأي حال عام واحد لكل تشكيل وزاري، إلا أن هناك مؤشرات ترجح بلوغ درجة من تطبيع العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية دون تحولها إلى حالة التعاون التام أو العودة لمرحلة التأزم وتتمثل تلك المؤشرات في:
(&) رسائل الشارع: أبرزت الانتخابات الأخيرة توجهًا جديدًا يتبلور في أوساط الناخبين الكويتيين، فمع التغير الكبير في تركيبة مجلس الأمة بنسبة 54%، الذي لا يعد أمرًا جديدًا على نظام الدوائر الانتخابية الخمس منذ تطبيقه في انتخابات 2008، إلا أن الإصلاحات الأخيرة وعودة كبار الشخصيات المعارضة التي تحظى بدرجة من المصداقية لدى الشعب الكويتي، وعلى رأسهم رئيس المجلس النائب أحمد السعدون، ساهمت في استعادة ثقة الناخبين بالعملية الانتخابية وجدواها.
وكان الفضاء الإلكتروني ممثلًا في وسائل التواصل الاجتماعي، حاضرًا في هذا الحراك الانتخابي بالتوازي مع تراجع دور الديوانيات إجمالًا، وهو ما انعكس في بروز عدد من النواب الشباب، وعودة التمثيل النسائي بواقع نائبتين بعد غياب عن مجلس 2020.
(&) ملامح ممارسة سياسية جديدة: صبغت التجربة الحالية جهود القيادة السياسية لإضفاء طابع مؤسسي على العملية السياسية وإرساء قواعد وتقاليد سياسية جديدة مبنية على الفصل الطوعي بين السلطات والتمسك بمرجعيتي الدستور والإرادة الشعبية، التي تدفع بها القيادة السياسية لتعزيز قوة الردع الأدبي والسياسي لأي من طرفي المعادلة (الحكومة ومجلس الأمة).
(&) تفكك المعارضة: لم تعد هناك قضايا كبرى تتوحد خلفها المعارضة النيابية، كما تتباين أولويات تلك التكتلات ومساعيها لتجنيد ناخبين جدد حول أكثر القضايا المشتركة وهي (تعديل قانون الانتخاب والبدون والتركيبة السكانية)، حيث ستستثمر تيارات الإسلام السياسي الهدوء النسبي مع الحكومة في إعادة تعبئة قواعدها الشعبية لتستفيد من التركيز على السياسات الاجتماعية ذات الصبغة المتشددة في زيادة عدد مقاعدها، مما سيعزز من حضور ما يمكن تسميته "القبلية الإسلاموية"، وينعكس ذلك في تعزيز الاستقطاب المجتمعي والطائفي ما لم تخضع ممارساتهم للمراقبة.
وإجمالًا؛ تشهد التجربة السياسية الكويتية تحولات مهمة على أصعدة الناخبين والنواب والحكومة والإرادة السياسية الفاعلة وتحمل فرصًا واعدة لاستعادة بريق الديمقراطية الكويتية التي بدأت في 1963، لكن تلك الإصلاحات تتطلب إلى جانب بعدها الطوعي، مزيدًا من الإجراءات لتحصين التجربة والحفاظ على جوهرها الديمقراطي دون التخلي عن أهداف عملية تصحيح المسار، وعلى رأسها الحفاظ على الوحدة الوطنية وضمان التمثيل الفعال لكل فئات المجتمع وبصفة خاصة الفئات الأكثر ضعفًا مثل المرأة والشباب.