الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

كيف يتفاعل الشارع الإسرائيلي مع التوغل البري في غزة؟

  • مشاركة :
post-title
مظاهرات لإطلاق المحتجزين

القاهرة الإخبارية - د. محمد أبو سريع

بعد هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت داخل مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر الجاري، استدعت حكومة إسرائيل 360 ألف جندي من قوات الاحتياط، وحشدت بعضًا منهم على الحدود مع غزة، وسرعان ما تحدث مسؤولون كبار عن الإطاحة بالمقاومة وإقصائها تمامًا من المشهد الفلسطيني برمته، فقد تعهدت إسرائيل باجتياح غزة وتدمير القدرات العسكرية والسياسية لسلطات القطاع.

لكن بعد مرور ما يزيد على 3 أسابيع، لم تمنح حكومة نتنياهو الضوء الأخضر بعد لاجتياح بري شامل، رغم أن الجيش يقول إنه نفذ بعض التوغلات عبر الحدود وسيواصل تلك العمليات في الأيام المقبلة، وهو ما حدث بالفعل خلال اليومين الماضيين مع تكثيف الضربات جوًا وبرًا وبحرًا.

فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت في 20 أكتوبر الجاري، أن الحملة العسكرية الإسرائيلية ستخلق “نظامًا أمنيًا” جديدًا في غزة، وأن الحرب ستستمر على ثلاث مراحل، أولها حملة جوية وبرية لإنهاء سيطرة حماس الرسمية على قطاع غزة. وثانيها القضاء على جيوب المقاومة الفلسطينية بالقطاع. وثالثها إنشاء "نظام أمني جديد" يسمح للجيش الإسرائيلي بالتراجع عن السيطرة الرسمية على غزة.

وبصفة عامة، ينقسم الإسرائيليون حول عدد من الأمور والمسائل المرتبطة باجتياح جيش الاحتلال لغزة، ويمتد هذا الانقسام إلى الحكومة نفسها. أما عن الموقف الراهن للشارع الإسرائيلي، فقد تغير اتجاه الاجتياح البري لغزة هذا الأسبوع مقارنة بموقف الأسبوع الماضي، حينما أعرب 65% من الإسرائيليين عن تأييدهم لعملية برية واسعة النطاق في قطاع غزة على الفور. أما الآن فإن 49% من الإسرائيليين يعتقدون أنه يجب تأجيل هذا القرار، و29% فقط يؤيدون الدخول الفوري.

في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات التي يأتي في مقدمتها: ما هي أسباب تغير موقف الشارع الإسرائيلي من الاجتياح البري لغزة؟ وما هو موقف الإسرائيليين إزاء بعض القضايا الخلافية المرتبطة بهذا الاجتياح؟ وما هو مدى تأثير هذه المواقف على المستقبل السياسي للقوى الحاكمة في إسرائيل وقادتها؟ وهل يرتبط هذا الموقف بموجات الهجرة العكسية من إسرائيل إلى دول أخرى وما يشكله ذلك من تهديد لوجود الدولة العبرية؟

جدلية التدخل البري في الشارع الإسرائيلي

تغير موقف الشارع الإسرائيلي تجاه الاجتياح البري لغزة هذا الأسبوع مقارنة بالأسبوع الماضي، حيث يؤيد أقل من نصف الإسرائيليين، تأجيل قرار الاجتياح البري لغزة، و29% فقط يؤيدون الدخول الفوري. فقد تراجع تأييد الشارع الإسرائيلي للاجتياح البري لغزة خلال أقل من 10 أيام، فقد أظهر استطلاع رأي أجرته صحيفة معاريف في 28 أكتوبر الجاري، أن 49% من الإسرائيليين يعتقدون أنه يجب تأجيل قرار شن العملية البرية، مقارنة بـ 65% الذين أرادوا الدخول إلى قطاع غزة في وقت مبكر من الأسبوع الماضي وفقًا لاستطلاع أُجري في 19 أكتوبر. ويمكن تفسير هذا التغيير في موقف الشارع الإسرائيلي تجاه الاجتياح البري لغزة، في ضوء الأسباب التالية:

(*) ملف المحتجزين: ويشير لرغبة متنامية لمنح المفاوضين المزيد من الوقت لمحاولة إطلاق سراح بعض المحتجزين، فهناك خلاف داخلي حول السماح بفترة زمنية قصيرة لمزيد من المفاوضات بشأن الرهائن، وهناك أيضًا انقسام بين المؤسسة العسكرية وأجنحة في الحكومة على رأسها نتنياهو نفسه حول ما يجب فعله إذا فشلت المفاوضات حول إطلاق سراح الرهائن. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الفصائل الفلسطينية تحتجز نحو 250 أسيرًا، بينهم ضباط وجنود، فيما أفاد جيش الاحتلال بوجود 239 أسيرًا داخل غزة.

(*) سيناريو تعدد الجبهات: تنامى الشعور بالقلق في الداخل الإسرائيلي من أن يؤدي اجتياح غزة، إلى اتساع وتعدد جبهات القتال، فالغزو البري قد يجر جيش الاحتلال إلى معركة مستعصية داخل غزة، ويخشى آخرون نشوب صراع أوسع نطاقًا، مع انخراط أكبر لـ"حزب الله" في الحرب بإطلاق صواريخ بعيدة المدى باتجاه المدن والمستوطنات الإسرائيلية.

(*) عدم وضوح خطة الاجتياح البري: هناك جدل حول ما إذا كان سيتم تنفيذ الغزو من خلال عملية واحدة كبيرة، أو سلسلة من العمليات الأصغر، كما أن هناك علامات استفهام كبيرة حول من سيحكم غزة إذا ما تمكنت سلطة الاحتلال من تنفيذ مخططها بإقامة نظام أمني جديد.

علاوة على ذلك يظهر حجم الغموض والتعتيم على العملية، ويتأكد ذلك في ضوء ما قاله داني دانون، وعضو لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيسيت الإسرائيلي: "قد يقول البعض إن علينا أن نبدأ وبعد ذلك يمكننا التفكير في المرحلة التالية، لكننا كقيادة، كرجال دولة، علينا أن نحدد الأهداف، ويجب أن تكون الأهداف واضحة للغاية. لا ينبغي أن يكون هناك شيء غامض".

(*) المخاوف بشأن حصيلة العملية البرية: فهناك عدم يقين بشأن ما قد يعنيه على وجه التحديد الهدف النهائي المعلن بتقويض القدرات العسكرية والإدارية لحركات المقاومة، وهي حركات سياسية وعسكرية متجذرة بعمق في المجتمع الفلسطيني. كما تأتي الخسائر المتواصلة للاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد قُدرت التكلفة المباشرة للحرب بنحو مليار شيكل (246 مليون دولار) يوميًا لـ"إسرائيل"، أي ما يعادل 5 مليارات و412 مليون دولار، منذ بداية عملية "طوفان الأقصى".

حسابات المكسب والخسارة

على الرغم من أن مزاج الشارع الإسرائيلي يلعب دورًا كبيرًا في قرارات الحكومة الإسرائيلية بشأن رد الاعتبار واستعادة الردع بعد هجوم السابع من أكتوبر المباغت، إلا أن المستقبل السياسي لنتنياهو بات على المحك، فلا يزال نتنياهو يؤجل قرار الاجتياح البري الشامل لغزة استجابة لموقف الشارع الإسرائيلي المطالب بهذا القرار لعدة أسباب؛ أهمها الخوف من المساءلة عن سلامة المحتجزين، وذلك رغم ضغط قادة جيش الاحتلال عليه.

في ضوء ما سبق، يمكن تحديد مكاسب وخسائر القوى السياسية إزاء تراجع تأييد الشارع الإسرائيلي للاجتياح البري لغزة خلال أقل من 10 أيام، ليصبح على النحو السالف بيانه، فيما يلي:

(&) تحقيق المعارضة الإسرائيلية بعض المكاسب: استطاعت هذه المعارضة تقوية موقفها في استطلاعات الرأي إذا ما أجريت انتخابات الكنسيت حاليًا، فسوف تحصل على 77 مقعدًا من أصل 120. وأظهر هذا الاستطلاع أيضًا، تراجع قوة حزب الليكود الحاكم إلى 19 مقعدًا فقط، في حين زادت قوة حزب المعسكر الرسمي بقيادة بيني جانتس إلى 36 مقعدًا.

(&) زيادة شعبية بيني جانتس على حساب نتنياهو: فحسب الاستطلاع، 49% يقولون إن بيني جانتس هو المناسب لرئاسة الحكومة الإسرائيلية بينما يفضل 28% بنيامين نتنياهو. ويعتقد محللون أن نتنياهو نفسه يشعر بالقلق من إعطاء الضوء الأخضر للاجتياح البري الشامل بشكل منفرد، لأنه مع تراجع ثقة الجمهور في قيادته بالفعل، فإنه يخشى أن يتم إلقاء اللوم عليه إذا فشلت العملية.

الجدير بالذكر هنا، ما كشفه استطلاع لصحيفة "معاريف" العبرية، عن أن 80% من الإسرائيليين يعتقدون أن رئيس الوزراء يتحمل مسؤولية ما حدث في قطاع غزة. وفى استطلاع آخر لـ"جيروزاليم بوست"، ترتفع هذه النسبة إلى 94% من الإسرائيليين، فيما يعتقد 56% منهم أن على نتنياهو تقديم الاستقالة بعد انتهاء الحرب الجارية.

الهجرة العكسية ومستقبل إسرائيل

بات واضحًا حتى قبل عملية طوفان الأقصى، تصاعد مفهوم الهجرة الإسرائيلية العكسية باتجاه أوروبا، فالوقائع على الأرض، وشهادات مراقبين ومختصين، تصبّ في الاتجاه ذاته. فقد صدرت دراسة لتحليل هذا الاتجاه تحت عنوان "إسرائيل تنزف.. والهجرة المعاكسة خطر وجودي"، وهذا ما أكده أستاذ العلوم العسكرية في الجامعة العبرية في مدينة القدس المحتلة، البروفيسور مارتين فان كارفيلد، والمعروف أنه من أشدّ الداعين إلى طرد جميع العرب من إسرائيل، معتبرًا أن تفشي ظاهرة إدمان وتجارة المخدِّرات، وبيع الجنود أسلحتهم لفصائل المقاومة مقابل المال، وتصاعد الهجرة إلى أوروبا وأمريكا، تظهر أن "الصراع ضد الفلسطينيين خاسر، وسينتهي بنهاية دولة إسرائيل في نهاية المطاف".

ومن المحتمل أن تزايد معدلات هذه الهجرة في الوقت الراهن، سوف يشكل عامل قوى في التأثير على الرأي العام الإسرائيلي إزاء الحرب الحالية على غزة وما يرتبط بها من تطورات تؤثر على الداخل الإسرائيلي. فقد كشفت تقارير إسرائيلية رسمية وحديثة منذ يناير 2023، إقبالًا إسرائيليًا ملحوظًا للحصول على الجنسيات الأوروبية بهدف الهجرة إليها، حيث بدأت منظمة إسرائيلية تطلق حملات تدعو الإسرائيليين إلى الهجرة من الأراضي المحتلة، ووضعت لنفسها هدفًا أوليًا بإقناع 10 آلاف إسرائيلي بالهجرة السريعة في أعقاب صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف وسيطرته على مقاليد الحكم نهاية العام الماضي.

لذلك، فليس من المستغرب أن اليهود الوافدين من بلدان فقيرة أصبحوا ينظرون إلى إسرائيل على أنها نقطة في الطريق إلى رحلتهم إلى الولايات المتحدة أو أوروبا، فيما تتزايد هجرة اليهود من إسرائيل إلى دول أخرى. وفي الوقت نفسه، تتراجع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، مع تزايد نسبة المهاجرين منها، بينما يواصل الفلسطينيون الاستخدام الفعال لسلاحهم الرئيسي والمتمثل في النمو الديموغرافي.

في النهاية؛ يمكن القول إن الداخل الإسرائيلي، لا يزال مشتعلًا منذ هجوم المقاومة على البلدات الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، وربما لن يكون تراجع تأييد الشارع الإسرائيلي للاجتياح البري لغزة خلال أقل من 10 أيام بديلًا عن المطالبة بالاجتياح الفوري لغزة، هو التغيير أو التراجع الأخير في موقف الإسرائيليين إزاء هذا الاجتياح. فالاشتباكات الإسرائيلية الجارية مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، تخفي أزمة سياسية قد تنفجر بوجه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة فجأة لتحصد نتاج ما زرعته من كراهية وتطرف ديني وأعمال استفزازية غير مسبوقة بحق الشعب الفلسطيني. وقد يعجل بهذا الانفجار تزايد موجات الهجرة العكسية للإسرائيليين في اتجاه أوربا وأمريكا خاصة في ظل التصعيد الراهن بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وجيش الاحتلال، وما يرتبط بذلك باستمرار عدم الاستقرار وانعدام اليقين بشأن مستقبل إسرائيل.