يبدو أن أوروبا فشلت في اختبار حقوق الإنسان، وخاصة حرية التجمع السلمي والتعبير عن الرأي، بعد ما حظرت العديد من الحكومات الاحتجاجات المؤيدة للقضية الفلسطينية واعتقالها للعديد بحجة الحفاظ على النظام العام وسلامة المواطنين.
ففي برلين تجمع عشرة آلاف شخص للتضامن مع الاحتلال الإسرائيلي، في وقت أظهرت فيه الأحزاب السياسية الرئيسية هذا الموقف، وألقى المستشار الألماني خطابًا حماسيًا أعلن فيه أن ألمانيا تتحمل مسؤولية وطنية عن "حماية الحياة اليهودية".
على النقيض من ذلك، اقتحم عدد من ضباط مكافحة الشغب تظاهرة أصغر على بُعد بضعة بنايات فقط من التجمع الأول، لوّح فيها المشاركون بالأعلام الفلسطينية، متحدين الحظر المفروض على الاحتجاجات المؤيدة للقضية الفلسطينية، قبل أن يداهم ضباط مكافحة الشغب الوقفة ويقتادوا بعض المشاركين بعيدًا مقيدي الأيدي، وتفرّق بقية المتظاهرين.
وبعد تفريق المظاهرة، قال أحد المتظاهرين لصحيفة "واشنطن بوست": "أوروبا تفشل في تحدي حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بفلسطين، من حق الجميع أن يحزنوا ويورون قصتهم".
وسمحت الحكومة في برلين للمدارس بحظر الكوفية الفلسطينية وخرائط الأراضي المحتلة بألوان العلم الفلسطيني والملصقات التي كتب عليها "فلسطين حرة"، وتأتي هذه الخطوة وسط انتقادات من السلطات بأن "التهديدات ضد المدارس والمواقع الثقافية ومحطات النقل العام قد انخفضت وتزايدت التقارير عن حوادث معادية للسامية"، بحسب ما أشارت صحيفة "دير شبيجل" الألمانية.
دعم مطلق ومفتوح
لكن المتظاهرين تساءلوا عما إذا كانت القيود المفروضة على الاحتجاجات مبنية على "الخوف على السلامة العامة"، بحجة أنها تنتهك حقوق الحكومة وتضر البعض على حساب الآخرين.
وعلى الرغم من أن بعض القادة الأوروبيين أعربوا عن قلقهم إزاء مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، إلا أن زعماء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة اتفقوا بالإجماع على الدعم الكامل لإسرائيل، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في الوقت الذي كانت قد دعت فيه باريس إلى فرض حظر كامل على الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، والتنديد بأفعال جيش الاحتلال.
فرنسا .. الاعتقال رغم السلمية
وسارع المسؤولون الفرنسيون إلى التعبير عن تضامنهم مع إسرائيل بعد الهجوم، بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأضاءوا نجمة داود على برج إيفل، وأنشد المتظاهرون النشيد الوطني الإسرائيلي في الشوارع، وعلى النقيض أمر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين بحظر جميع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، قائلا إنها قد "تعطل النظام العام"، بحسب ما أشارت صحيفة "لو فيجارو" الفرنسية.
وفي 14 أكتوبر، منعت السلطات الفرنسية الرابطة الإقليمية الفلسطينية من تنظيم احتجاجات في باريس.
وحكمت أعلى محكمة إدارية في فرنسا ضد الحظر الشامل الذي فرضته السلطات على الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، لكنها منحت السلطات المحلية حق النظر في شأن الاحتجاجات كل حالة على حدة، وبحسب المحكمة فإن أسباب حظر المظاهرة هي "أعمال معادية للسامية في فرنسا" و"مخاوف مشروعة تتعلق بالنظام العام".
فيما سمحت سلطات باريس بتنظيم مسيرة مؤيدة لفلسطين يوم الأحد 22 أكتوبر، وتجمع الآلاف في ساحة الجمهورية، ملوحين بالأعلام الفلسطينية، ونقلت صحيفة "لوموند" عن السلطات المحلية قولها إن الاحتجاجات كانت سلمية إلى حد كبير، لكنها لفتت الى اعتقال قوات الأمن لـ10 أشخاص بسبب ترديدهم شعارات وصفوها بالـ"معادية".
بريطانيا .. حظر رفع العلم
وفي المملكة المتحدة، تعرضت السلطات لانتقادات ليس فقط بسبب حظر الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، بل وأيضًا لتقييد حرية التظاهر ورفع الشعارات، وكتبت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان إلى كبار ضباط الشرطة في إنجلترا وويلز قائلة إن القيود لا ينبغي أن تقتصر على الرموز والشعارات التي تدعم فصائل المقاومة علنًا فقط، وأضافت: "يجب على الشرطة أن تفكر في شعارات مثل "فلسطين حرة من النيل للفرات"، إنه يعبر عن النية العنيفة لإزالة إسرائيل من العالم" وينص على أن "رفع العلم الفلسطيني يمكن، في بعض الظروف المعينة، أن يمجد الإرهاب"، وفقًا لما أشارت إليه صحيفة "الجارديان" البريطانية.
النمسا وألمانيا
وحظر مسؤولون أمنيون في العاصمة النمساوية فيينا الاحتجاجات المؤيدة للقضية الفلسطينية قبل ساعات من بدايتها، متعللين بأن المنظمين حشدوا التظاهرة عبر الإنترنت تحت شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، إلا أن شرطة فيينا أعلنت في وقت لاحق في بيان لها أن الشعار "لا يحرض على الكراهية".
في ألمانيا، تعتبر مسألة الشعارات والاحتجاجات قضية أكثر حساسية بكثير من أي مكان آخر، وعلى الرغم من أن البلاد لديها أكبر جالية فلسطينية في أوروبا، إلا أن هناك مخاوف بشأن المحرقة النازية ومسؤولية ألمانيا التاريخية عنها.
يحمي الدستور الألماني حرية التعبير والتجمع، لكنه يكفل لحكومات الولايات الحق في تقييد التجمع، فيما قد منع المسؤولون في برلين معظم الاحتجاجات الداعمة للقضية الفلسطينية هذا الشهر.
ووفقًا لصحيفة "دير شبيجل" حظرت الشرطة أمس الأحد مظاهرة تدعو إلى "السلام في الشرق الأوسط"، متعللين بأنها تنطوي على خطر مباشر يتمثل في ترديد "شعارات الكراهية والمعادية للسامية، وتمجيد العنف، وإعلان الرغبة في استخدام العنف، ومن ثمّ الترهيب، وإمكان ارتكاب الأعمال العنيفة".
وفرضت هامبورج، ثاني أكبر مدينة في ألمانيا، حظرًا مؤقتًا على الاحتجاجات، وشهدت بعض الولايات اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس في خطاب ألقاه أمام البرلمان يوم 12 أكتوبر، إنه سيتم حظر جماعة "صامدون" لحقوق السجناء الفلسطينيين من دخول البلاد.
لكن الحكومة الألمانية واجهت معارضة متزايدة لإجراءاتها القاسية، ونشرت صحيفة "تاز" الألمانية رسالة مفتوحة من أكثر من 100 فنان وكاتب يهودي في ألمانيا يدينون معاملة ألمانيا للمتظاهرين المؤيدين لفلسطين. وقال الموقعون على البيان: "إن أكثر ما يخيفنا هو أجواء العنصرية وكراهية الأجانب التي تسود ألمانيا، نحن نرفض بشدة الخلط بين معاداة السامية وانتقاد دولة إسرائيل".