اتجهت أسعار الغذاء العالمية نحو الارتفاع خلال الآونة الأخيرة، وخاصة في أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية، كما تسببت التغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية في تفاقم الأزمة بجميع الدول، إذ عانت البلدان مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة الدخل من هذه الأزمة التضخمية، بعد ما تجاوز التضخم 5% في 86% من البلدان متوسطة الدخل، و73.2% من الدول مرتفعة الدخل، ما يوضح التأثير الواسع للأزمات العالمية على الأمن الغذائي العالمي.
في ضوء ما سبق يتناول هذا التحليل توضيح أبعاد أزمة ارتفاع أسعار الغذاء داخل الدول المختلفة، كما يهدف إلى التعرف على دلالات هذه الأزمة، مع توضيح انعكاساتها على الدول.
أبعاد الأزمة
زادت أزمة ارتفاع أسعار الغذاء في العديد من الدول، كنتيجة طبيعية للتغيرات التي حدثت في العالم في الفترة الأخيرة، ويمكن توضيح أبعاد هذه الأزمة على النحو التالي:
(*) مؤشر أسعار الأغذية: ارتفع مؤشر أسعار الأغذية خلال الفترة التي أعقبت الأزمة الروسية الأوكرانية؛ نظرًا لما ترتب عليها من انقطاع سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع أسعار الشحن، فكما يتضح من الشكل رقم (1) أن عام 2022 شهد ارتفاعًا كبيرًا في هذا المؤشر، وسجّل 143.7 بالمُقارنة بـ 91.9 نقطة في عام 2016، أي ارتفع بمقدار 56.4%.
وعلى الرغم من انخفاضه في أغسطس 2023 إلا أنه لا يزال مرتفعًا بدرجة كبيرة عن مقياسه في الأعوام التي سبقت أزمتي فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يوضح أن العالم لا يزال يواجه أزمة حقيقية في أسعار الغذاء.
(*) تقرير البنك الدولي: أشار تقرير نُشر أخيرًا للبنك الدولي عن توقعات سوق السلع الأولية، إلى أن الأسعار العالمية للغذاء والوقود من المحتمل أن تستمر في الارتفاع حتى نهاية عام 2024؛ بسبب الصدمة التي أحدثتها الأزمات العالمية على سوق السلع العالمي، وعلى ذلك فمن المرجح أن ترتفع أسعار منتجات غير الطاقة، من بينها المنتجات الزراعية والمعادن بنحو 20%، الأمر الذي من المحتمل أن يترتب عليه انخفاض النمو في الدول التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الغذاء.
(*) الأزمة داخل الدول: عانت العديد من دول العالم من التأثيرات السلبية للتغيرات الجيوسياسية والتغيرات المناخية التي حدثت في الفترة الأخيرة، ومن الدول التي عانت أزمة حقيقية هي:
(-) فنزويلا: ارتفعت أسعار الأغذية بشكل كبير في فنزويلا، كما يتضح من الشكل رقم (2)، إذ تُشير أرقامه إلى حدوث زيادة غير مسبوقة في الأسعار خلال عام 2023، بعد ما ارتفعت من 108.84 إلى 470.8 في أبريل 2023، أي ارتفعت بنسبة 332.6%، وهو ما يوضح الأزمة التي تعاني منها كاراكاس، ما جعل البنك الدولي يُدرجها في المركز الأول للدول التي تعاني ارتفاعًا في أسعار الغذاء.
(-) الأرجنتين: تسببت موجات الجفاف التي تعرضت لها الأرجنتين إلى حدوث زيادة كبيرة في أسعار السلع الغذائية، كما تُشير أرقام الشكل رقم (3)، الذي يوضح ارتفاع تكلفة الغذاء في الارجنتين إلى 133.49% في أغسطس 2023، مُقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، ما جعلها تحتل المرتبة الثالثة في تصنيف البنك الدولي للدول التي لديها أعلى معدل تضخم في أسعار الغذاء.
(-) الهند: ارتفعت تكلفة الغذاء بشكل كبير داخل الهند؛ بسبب الظروف المناخية المُتقلبة التي شهدتها أخيرًا، إذ ارتفعت الأسعار لتُسجل 11.51% في يوليو 2023، بالمقارنة بـ4.49% في يونيو 2023، كما يُشير الشكل رقم (4)، ما يوضح التحدي الداخلي بالهند فيما يخص الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة وتأثيرات التغير المناخي التي أثرت على المحاصيل وبالتبعية أسعار الغذاء، خاصة فيما يتعلق بأسعار الأرز والسكر والبصل، ومن هنا يُمكن القول إن الهند كمنتج رئيسي تُصدر تضخم أسعار المواد الغذائية إلى الدول الأخرى، إذ ارتفع مؤشر أسعار الأرز بنسبة 2.8% في يوليو 2023.
دوافع مهمة
إن الزيادات الكبيرة في أسعار الأغذية داخل العديد من الدول جاءت مدفوعة بمجموعة من العوامل المهمة، التي يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(*) اضطراب سلاسل الإمداد: واجهت سلاسل الإمداد العالمية اضطرابًا شديدًا جراء أزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، إذ أثرت هذه الأزمات على سلاسل إمداد المواد الخام والسلع الغذائية بشكل كبير، وكما يوضح الشكل رقم (5)، حدث عجز كبير في الإمدادات، ما يعكس تحول أوروبا من الفائض في المعروض إلى نقص كبير في الأعوام التي أعقبت عام 2020.
(*) ارتفاع أسعار الشحن: تسببت الأحداث العالمية الأخيرة في ارتفاع أسعار الشحن بشكل كبير، إذ تذبذب مؤشر أسعار شحن الحاويات العالمية خلال الفترة من يناير 2019 إلى أغسطس 2023، كما يوضح الشكل رقم (6)، إذ شهد عام 2021 زيادة كبيرة في أسعار الشحن العالمية، بعد ما وصلت إلى سعر قياسي يُقدر بنحو 10.400 دولار أمريكي في سبتمبر 2021، وفي أغسطس 2023 بلغ مؤشر أسعار الشحن العالمية 1700 دولار أمريكي، الأمر الذي تسبب في زيادة تكلفة الاستيراد على الدول المختلفة، خاصة الدول النامية.
(*) إنهاء مبادرة البحر الأسود: أعلنت روسيا عدم تمديد اتفاق حبوب البحر الأسود في 17 من يوليو الماضي، الأمر الذي يُعتبر من السلبيات الكبرى للأزمة الروسية الأوكرانية، إذ تعتبر روسيا أكبر مصدّر للقمح، ويبلغ حجم صادراتها من القمح إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى نحو 47.5 مليون طن. ومن ناحية أخرى، أثر هذا القرار بشكل كبير على أسعار القمح العالمية، الأمر الذي تسبب في تفاقم أزمة أسعار الغذاء داخل العديد من الدول.
(*) التغيرات المناخية: تضرر الأمن الغذائي العالمي بشكل مبالغ فيه الفترات الأخيرة؛ بسبب التأثيرات الضارة التي سبّبتها التغيرات المناخية على إنتاجية المحاصيل داخل الدول المختلفة، فقد نتج عن موجة الحر التي اجتاحت القارة الأوروبية موجة جفاف متفاقمة أدت إلى انخفاض منسوب المياه بالأنهار والبحيرات، كما تسببت الأمطار الموسمية الغزيرة التي أصابت الهند في اتخاذ نيودلهي قرارًا بحظر تصدير الأرز الأبيض، بالإضافة إلى أعاصير "إل نينو" الموسمية وما تسببه من ارتفاع كبير في درجات الحرارة والأمطار الغزيرة في جنوب آسيا وأمريكا الوسطي، فكل هذه التغيرات تسببت في ارتفاع كبير بأسعار الغذاء؛ بسبب تأثير التغيرات المناخية على المعروض من السلع الغذائية.
انعكاسات محورية
يترتب على ارتفاع أسعار السلع الغذائية، مجموعة من الانعكاسات السلبية، التي يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(&) ارتفاع مستويات الفقر: ترتب على الزيادة الكبيرة في أسعار المواد الغذائية، ارتفاع مستويات الفقر بشكل ملحوظ، وكما أشار تقرير للأمم المتحدة فإن أزمات فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية دفعت 165 مليون شخص إلى الفقر منذ عام 2020، كما من المحتمل أن يصبح عدد الأشخاص الذين يقل دخلهم عن 2.15 دولار، نحو 75 مليون شخص حتى نهاية 2023، الأمر الذي يرجع إلى انخفاض قدرة الأشخاص في الحصول على السلع الغذائية الأساسية؛ بسبب امتصاص تضخم أسعار السلع الغذائية لنسبة كبيرة من دخلهم.
(&) انعدام الأمن الغذائي: يأتي انعدام الأمن الغذائي كنتيجة طبيعية لارتفاع مستويات الفقر داخل الدول، إذ يترتب على عدم قدرة الأفراد في توفير الغذاء الكافي والآمن والمنتظم، ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي، الأمر الذي يظهر جليًا في بلدان منطقة الساحل الإفريقي، إذ نتج عن الأزمات المختلفة معاناة 45 ألف شخص من مستويات كبيرة من الجوع، وهو من المحتمل أن ينتج عنه ارتفاع عدد الأشخاص الذي يعانون انعدام الأمن الغذائي إلى 48 مليون شخص، وهي زيادة بمقدار أربعة أضعاف خلال السنوات الخمس الماضية، فضلًا عن مواجهة 16.5 مليون طفل دون سن الخامسة سوء التغذية الحاد في عام 2023، بحسب ما جاء في تقرير الأمم المتحدة الأخير.
(&) زيادة عجز الموازنة: إن ارتفاع أسعار السلع الغذائية داخل الدول، يعمل على تحميل ميزانيات الدول عبء صرف علاوات استثنائية ومنح لمواجهة غلاء المعيشة، وهو ما يزيد في المقابل من عجز الموازنة بشكل كبير، خاصة في الدول النامية التي تضررت من الأزمات العالمية والتغيرات المناخية؛ بسبب اعتمادها بشكل كبير على استيراد السلع الغذائية من الخارج، وكما يزداد عجز الموازنة في الدول الكبرى، إذ بلغ عجز الموازنة 5.8 % في الولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر 2022، وبلغ 5.5% في بريطانيا.
وعليه يُمكن القول؛ إن تضخم أسعار السلع الغذائية في الدول المختلفة جاء نتيجة لمجموعة من العوامل ساهمت في تفاقم الأزمة بشكل كبير، منها عوامل سببتها أزمات بين دول مثل الأزمة الروسية الأوكرانية، والعوامل الأخرى سببتها التغيرات المناخية، الأمر الذي يُحتّم على جميع الدول إدراك حجم الأزمة الراهنة، فضلاً على أهمية تكاتف الدول؛ لمواجهة التغيرات المناخية التي تؤثر على تحقيق الأمن الغذائي العالمي.