يُعاني الاقتصاد الصيني ضعفًا شديدًا في الأداء الكلي، منذ يوليو 2023، بالإضافة إلى الأداء الاقتصادي الضعيف في عام 2022، الذي يتضح من خلال انخفاض العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية، إذ تعرضت الصين إلى عواقب اقتصادية وخيمة بعد تفشي فيروس كورونا، وشهد الاقتصاد أول انكماش منذ عام 1992.
يُذكر أن وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" خفضت توقعاتها لنمو الصين، لعام 2023 إلى 5.2%، بانخفاض عن التقديرات السابقة التي بلغت 5.5%، وأشارت إلى أن "تعافي نمو الصين يفقد المزيد من الزخم وسط ضعف الثقة بين المستهلكين وخاصة في سوق الإسكان".
وعلى الرغم من تعافيه في عام 2021، لكن معاودة الانكماش مرة أخرى في عام 2023، يجعل السؤال الرئيسي الذي يدور هو "هل الوضع الاقتصادي الحالي للصين يؤثر على مركزها كأكبر ثاني اقتصاد في العالم؟"
وفي ضوء ما سبق يتناول هذا التحليل التعرف على المؤشرات الكلية التي توضح تراجع الاقتصاد الصيني، مع توضيح الانعكاسات المُحتملة لهذا التراجع.
مؤشرات واضحة
ثمة مؤشرات نستدل منها على تراجع الاقتصاد القومي الصيني، على النحو التالي:
(*) انخفاض كبير في معدلات التضخم: يتضح من الشكل رقم (1) أن الصين تعاني انخفاضًا شديدًا في أسعار المستهلكين، إذ انخفضت بنسبة 0.3% على أساس سنوي، يوليو 2023، الذي جاء أقل من توقعات السوق التي تبلغ 0.4%، وأول انخفاض منذ فبراير 2021، مدفوعًا بالانخفاض الشديد في أسعار لحم الخنزير التي انخفضت بنسبة 26% على أساس سنوي.
كما انخفضت تكلفة الغذاء بنسبة 1.7%، وانخفضت أسعار النقل بنسبة 4.7%، ويظهر المعني الاقتصادي هنا أن انخفاض معدلات التضخم حتى تصل إلى الصفر وما دونه، تعني أن الاقتصاد دخل في مرحلة الانكماش وأنه يُعاني انخفاضًا شديدًا في حجم الطلب المحلي، الذي يرجع إلى تدهور قطاع العقارات بشكل كبير داخل الصين، وما ترتب عليه من انخفاض الطلب على مواد البناء، وهو الأمر الذي سيزيد الضغط على الحكومة الصينية التي ستقوم بالنظر في حوافز مالية إضافية؛ لكي تعمل على إعانة المُنتجين للاستمرار في العمل، وحماية الاقتصاد الصيني من الانزلاق في خطر السيولة.
(*) انخفاض نشاط المصانع: حدث انكماش كبير لنشاط المصانع الصينية في يوليو، للشهر الرابع على التوالي، الذي سيتم توضيحه من خلال مؤشر مديري المشتريات في الشكل رقم (2)، فكلما كان هذا المؤشر أكبر من 50%، فإنه يدل على توسع الاقتصاد الكلي، وكلما كان أقل من 50% فإنه يدل على أن الاقتصاد الكلي في حالة ركود، إذ بلغ 49.2%، و48.8%، و49%، و49.3%، في أبريل ومايو ويونيو ويوليو على التوالي، بالمقارنة بـ52.6% في مارس 2023، وهو ما يعني تعرض الاقتصاد الكلي لحالة الركود، إذ انخفضت مستويات الشراء لأول مرة منذ يناير 2023. كما انكمشت المبيعات الخارجية بأكبر قدر منذ سبتمبر 2022، وبالتالي حفض بعض الموردين مستويات مخزونهم. وانخفضت كذلك رسوم الإنتاج بشكل كبير، الذي ترتب عليه انخفاض مؤشر الإنتاج المركب لمديري المشتريات إلى 51.1% في يوليو 2023، مُسجلًا انخفاضًا بقيمة 1.2 نقطة مئوية، وهو ما يوضح تأثر الإنتاج الكلي للشركات الصينية.
(*) انخفاض الصادرات والواردات: تدهور شقي التجارة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، فعلى مستوى الصادرات كما يوضح الشكل رقم (3)، تراجعت إلى أدنى مستوى لها في خمسة أشهر، إذ تراجعت بنسبة 14.5% في يوليو 2023، وهو أسوأ من التوقعات التي قدرت الانخفاض في حجم الصادرات بنسبة 12.5%، وهو ما يوضح التدهور الكبير في الصادرات الصينية.
أما على جانب الواردات كما يوضحها الشكل رقم (4)، فقد انخفضت بنسبة 12.4% على أساس سنوي، أي سجلت قيمة 201.16 مليار دولار في يوليو 2023 بالمقارنة بـ214.70 مليار دولار في يونيو 2023، وكان هذا الانخفاض أكبر من توقعات السوق التي بلغت 5%، وهي بذلك تُعد أكبر انخفاض منذ يناير 2023، الذي يرجع إلى تدهور الطلب المحلي.
(*) ارتفاع معدل الدين: ارتفعت معدلات الدين بشكل كبير في جمهورية الصين الشعبية، إذ سجلت نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي 279.7% في الأشهر الثلاثة الأولى من 2023، بارتفاع قدره 7.7% عن الربع السنوي السابق، وبالمقارنة بمتوسط 256% في الدول المتقدمة، وهو ما يوضح التراكم الكبير في حجم الديون داخل الصين، الذي يرجع إلى التباطؤ في نمو الاقتصاد وإلى خطة التحفيز المالي التي اتخذتها الحكومة الصينية، خلال فترة تفشي وباء كورونا.
انعكاسات مُحتملة
تعرض ثاني أكبر اقتصاد في العالم للتراجع الاقتصادي، من المُحتمل أن يكون له العديد من الانعكاسات المهمة على العالم أجمع، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
(*) تأثر التجارة العالمية: تُشكل صادرات الصين من السلع 15.07% من التجارة العالمية، وكما تُشكل نسبة صادرات الصين من الخدمات 6.25%، فعندما تنخفض الصادرات الصينية وفق ما يوضحه الشكل رقم (3)، ستتأثر بالتأكيد التجارة بين الصين وباقي دول العالم، فكما يُشير الشكل رقم (5) إلى أن التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي بلغت 856.3 مليار يورو في 2022، بالمقارنة بـ707.4 مليار يورو في 2021.
وبقراءة هذه الأرقام يتضح أن الصين تعتبر شريكًا تجاريًا ضخمًا مع العديد من الدول، فمن المُحتمل أن تتأثر حجم هذه التجارة مع الظروف الاقتصادية التي تُعاصرها الصين حاليًا، ومن قراءة وضع التجارة الصينية مع أكبر الشركاء التجاريين، اتضح انخفاض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 23.12% عن العام السابق، وكما تراجعت الصادرات إلى دول الآسيان والاتحاد الأوروبي بنسبة 21.43 و20.62% على التوالي في أول سبعة أشهر من 2023، ومن المحتمل أن يؤثر على تراجع معدلات التجارة العالمية.
(*) ارتفاع عجز الميزان التجاري: إحدى العواقب الاقتصادية التي يعكسها تدهور التجارة الخارجية للصين هو ارتفاع عجز الدول المتعاملة تجاريًا مع الصين، إذ إن انخفاض الواردات الصينية سيعمل على خفض الميزان التجاري لهذه الدول بقدر قيمة الواردات الصينية التي تم تخفيضها، وهو ما سيعمل على خفض النقد الأجنبي المُتدفق إلى الشركاء التُجاريين مع الصين، وزيادة عجز الميزان التُجاري لهم.
(*) انخفاض تدفق رؤوس الأموال الصينية: يقوم الاستثمار الأجنبي المباشر للصين في الدول النامية بدور كبير في تحفيز النمو الاقتصادي لهذه الدول، إذ تستحوذ الدول العربية على 213.9 مليار دولار من الاستثمارات الصينية في الأصول الثابتة، وهو ما يوضح التدفق الكبير للاستثمارات الصينية بالدول العربية، وهو ما يضع احتمالًا أن تذبذب وتراجع الاقتصاد الصيني سيحد من هذا التدفق، وهو ما يؤجل تنفيذ العديد من المشروعات الاستثمارية الصينية في هذه الدول.
في مجمل القول، وتأسيسًا على ما سبق يُمكن القول إن الاقتصاد الصيني يمر بمرحلة من الركود الاقتصادي، الذي يرجع السبب الرئيسي فيه إلى تراجع الطلب المحلي بشكل كبير داخل جمهورية الصين الشعبية، وهو ما يتطلب من الحكومة الصينية مواجهته عن طريق تحفيز الطلب المحلي وتنشيط قطاع العقارات وتقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد والاستثمار، لحماية اقتصادها من الانكماش، الذي تمثل في العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية.