ازدادت وتيرة التباطؤ الاقتصادي في منطقة اليورو - التي تضم 20 دولة تشترك في عملة موحدة "اليورو" - في الربع الأول من عام 2023، ويعد مستوى الانكماش الذي وصلت له منطقة اليورو في الفترة الأخيرة، هو الأول بعد تأثيرات فيروس كورونا، إذ كانت جميع التوقعات في عام 2022 تشير إلى احتمالية انزلاق هذه المنطقة بشكل كبير نحو الركود الاقتصادي، وهو ما أيدته معظم المؤشرات الاقتصادية.
في ضوء ما سبق يتناول هذا التحليل مؤشرات الركود الاقتصادي بمنطقة اليورو، وانعكاساته الاقتصادية..
مؤشرات دالة:
يتبلور الركود الاقتصادي في منطقة اليورو من خلال مجموعة من المؤشرات، هي كالتالي:
(*) معدل النمو الاقتصادي: يتضح من الشكل رقم (1) إنه في يوليو 2020 شهد النمو الاقتصادي في منطقة اليورو ارتفاعًا كبيرًا، إذ بلغ 12.2%، مع ملاحظة تراجعه في عام 2021 بسبب تأثيرات فيروس كورونا، إذ سجلت المنطقة معدل نمو بالسالب في يناير 2021، لكن بدأت المنطقة تنتعش مرة أخرى، إذ حققت معدل نمو بلغ 2.2% في نهاية عام 2021، ومع بداية عام 2022 بدأت تنخفض معدلات النمو بشكل كبير، إذ انكمش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 0.1% في الربع الأخير من هذه السنة، واستمر تباطؤ النمو خلال عام 2023، إذ انخفض نمو المنطقة بنسبة 0.1% في الربع الأول من هذا العام، وعليه بسبب حدوث الانكماش في ربعين متتالين، أصبح هناك ما يُسمي بـ"الركود التقني" داخل منطقة اليورو، إذ نمت منطقة اليورو بنسبة 0.6% على أساس سنوي، وهو ما يُعد أضعف وتيرة توسع منذ فترة ركود 2020/2021، كما ساءت التوقعات الخاصة بمعدلات النمو، إذ توقع البنك الدولي تباطؤ النمو داخل منطقة اليورو إلى 0.4% خلال عام 2023، على الرغم من أن معدل النمو الذي تحقق في بداية الربع الثالث من عام 2023 يُعد بداية انفراجه نسبية للأزمة، لكنه يظل أقل بكثير جدًا من معدلات النمو المرتفعة التي تُحققها المنطقة.
الجدير بالذكر، أن ألمانيا تعد من أكثر اقتصاديات المنطقة التي تعرضت للركود، بعد ما سجلت معدل نمو 0.1% في الربع الأول من عام 2023، كما شهدت إيطاليا انكماشًا غير متوقع، إذ حققت معدل نمو 0.5%.
(*) انخفاض مؤشر "IFO" الألماني: وهو المؤشر الخاص بمناخ الأعمال في ألمانيا، ويعتمد على استطلاع شهري للشركات الألمانية حول مناخ الأعمال الحالي والمستقبلي، كما يعتمد هذا المؤشر على مقياس من 100 درجة، ويتضح من الشكل رقم (2) سلبية قراءة مؤشر "IFO" خلال شهر يوليو وانخفاضها عن تقديرات السوق، إذ سجل المؤشر 87.3 نقطة، بينما بلغت التوقعات 88.0 نقطة في 25 يوليو، وعليه انخفض النشاط الاقتصادي داخل أكبر اقتصاد في أوروبا، وتدهور قطاع التصنيع بشكل كبير، ما تسبب في تراجع الاقتصاد الألماني، إذ أشارت التوقعات إلى احتمالية انخفاض الناتج المحلي بـ 0.3 العام الجاري، وهو ما سيُعزز الركود في منطقة اليورو.
(*) معدلات التضخم: بقراءة أرقام الشكل رقم (3) يتضح أن معدلات التضخم في منطقة اليورو، انخفضت عن معدلها المرتفع في أكتوبر 2022 الذي سجلت فيه 10.6%، إذ استمرت في الانخفاض إلى 5.3% في يوليو 2023، لكن على الرغم من ذلك الانخفاض تعتبر تلك المعدلات مرتفعة جدًا بالمقارنة بمعدلات التضخم المعهود بها في منطقة اليورو في السنوات السابقة، إذ سجلت 0.29% في عام 2020، كما أشار بيان للبنك المركزي الأوروبي إلى أن حدوث انخفاض في مستوى التضخم، على الرغم من أن هناك توقعات تؤكد استمراره مرتفعًا، بمقارنته بالمُعدل المستهدف (2%)
(*) انخفاض معدل نمو الإنتاج الصناعي: ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 0.2% على أساس شهري في مايو 2023، مُتراجعًا عن زيادة بنسبة 1% في الشهر السابق، كما يوضح الشكل رقم (4)، وعليه، يُمكن القول إن إنتاج السلع الرأسمالية ارتفع بنسبة 1% في مايو 2023، بعد تسجيله معدل نمو 14.7% في أبريل 2023، بينما انتعشت معدلات الزيادة في إنتاج السلع الوسيطة، إذ سجلت 0.5% في مايو 2023، مقارنة بانخفاض بنسبة 0.9%، كما زاد الإنتاج من السلع المعمرة والسلع الاستهلاكية غير المعمرة على أساس سنوي، كانت المحصلة النهائية لذلك، هو انخفاض الإنتاج الصناعي داخل منطقة اليورو، وكان التخفيض في التصنيع من العوامل الأساسية الدافعة للإنجراف نحو التباطؤ الاقتصادي.
انعكاسات مهمة:
ترتب على الوضع الاقتصادي في منطقة اليورو مجموعة من الانعكاسات الاقتصادية، هي كالتالي:
(*) سياسة نقدية مُتشددة: ترتب على معدلات التضخم التي تفوق معدل التضخم المستهدف داخل منطقة اليورو، وهو الـ2% -كما تم توضيح ذلك في الشكل رقم (3)-، اتباع البنك المركزي الأوروبي سياسية نقدية تشدُدية داخل هذه المنطقة، وهو الذي يُمكن توضيحه من خلال الشكل رقم (5) الذي يبين أسعار الفائدة من أبريل 2022 إلى يوليو 2023، ويعكس الاتجاه التصاعدي لها، إذ يتخذ المركزي الأوروبي قرارات سعر الفائدة بالاعتماد على تقييم توقعات التضخم في ضوء البيانات الاقتصادية والمالية الواردة، كما أنها تأتي كرد فعل لقرار الفيدرالي حول سعر الفائدة، لهذا قام البنك المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة بمعدل 9 مرات على التوالي، وكان أخرها في يوليو 2023 عندما قرر رفع أسعار الفائدة الرئيسية الثلاثة بمقدار 25 نقطة أساس- أي 4.25 لسعر الفائدة على عمليات إعادة التمويل الرئيسية، و 4.50% على تسهيل الإقراض الهامشي، و3.75% لتسهيلات الودائع، وهو ما يُعتبر أعلى معدل منذ أكتوبر 2008
من هنا يُمكن القول إن البنك المركزي الأوروبي، قام بأسرع وتيرة تشديد في تاريخه، إذ قام برفع أسعار الفائدة بـ425 نقطة أساس منذ يوليو 2022، الأمر الذي ترتب عليه انخفاض الطلب على القروض بشكل كبير، كما اتضح من المسح الرُبع سنوي الذي يقوم به البنك، إن صافي طلب الشركات على القروض انخفض بشكل كبير جدًا خلال الربع الثاني من 2023، إذ سجل أدنى مستوى له منذ بداية المسح في عام 2008.
(*) انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار: تراجع اليورو بشكل كبير أمام الدولار خلال عام 2022، إذ سجل 0.9748 وهو ما اعتبره الخبراء أدنى مستوى لليورو خلال عقدين، إذ بدأت بوادر الانكماش تظهر في منطقة اليورو في هذا العام، كما توسع الفيدرالي في رفع معدلات الفائدة، ما تسبب في انتعاش قيمة الدولار أمام اليورو، لكن بفضل سياسات البنك المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة، بدأ وضع اليورو يتحسن نسبيًا وبشكل تذبذبي في عام 2023، وهذا ما يوضحه الشكل رقم (6) إذ سجل 1.09 دولار في يناير 2023، ثم انخفض إلى 1.069 دولار في 5 يوليو، ثم ارتفع مرة أخرى في 19 يوليو، مسجلًا 1.122 دولار، وعاود الانخفاض مرة أخرى في نهاية شهر يوليو إذ بلغ 1.102 دولار، وهو ما يزيد المخاوف من تراجع قيمة اليورو مرة أخرى أمام الدولار، وبمُقارنة هذه الأرقام بوضع اليورو في عام 2021، يُلاحظ التدهور الشديد في قيمته، إذ سجل 1.22 دولار في العاشر من يونيو 2021، وكان لهذا التدهور نتائج سلبية على نشاط الشركات التي تستورد كمية كبيرة من المواد الخام، الأمر الذي يعمل على ضعف نشاط الأعمال في دول منطقة اليورو.
(*) تراجع الأسهم الأوربية: نتج عن المخاوف الشديدة من الظروف الاقتصادية التي تعاني منها منطقة اليورو، وارتفاعات سعر الفائدة المستمرة، تراجع الأسهم الأوربية بشكل كبير، إذ تراجعت إلى أدنى مستوى لها في ثلاثة أشهر في 6 يوليو 2023، واُغلق مؤشر STOXX 600 بانخفاض قدره 2.3%، كما انخفض مؤشر EURO STOXX 50 بنسبة 2.9%، وعليه يُمكن تفسير ذلك بانخفاض الإقبال على المخاطرة من قِبل المستثمرين، وبسبب توقعات بنك " أوف أمريكا" التي تُشير إلى تدهور الأسهم الأوروبية بنسبة 20% خلال العام الجاري؛ بسبب الركود الشديد في المنطقة.
(*) تأثر الدول العربية: انتشار الركود الاقتصادي في منطقة اليورو، وامتداده إلى الاتحاد الأوربي، سيؤثر سلبًا على معظم الدول العربية، إذ يُعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري مع الدول العربية، وعلى سبيل المثال مصر تعتبر الشريك التجاري التاسع والعشرين مع الاتحاد الأوروبي، إذ بلغت قيمة الواردات المصرية في عام 2021 من الاتحاد الأوربي 21.3 مليار دولار، كما بلغت قيمة الصادرات المصرية إلى دول الاتحاد 14.6 مليار دولار، وبالتالي مع انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار، ستنخفض حصيلة الصادرات في هذه الدول، الأمر الذي يعمل على زيادة عجز الميزان التجاري بها.
تأسيسًا على ما سبق، يُمكن القول إن منطقة اليورو تأثرت من الأحداث الاقتصادية العالمية بشكل كبير، إذ تأثرت بالأزمة الروسية الأوكرانية، وقرارات الفيدرالي الأخيرة بخصوص سعر الفائدة، ما دفع الركود الاقتصادي للتسارع في هذه المنطقة، وخاصة في أكبر اقتصاديات أوروبا وهي ألمانيا، الأمر الذي سيكون له آثار سلبية عديدة على الوضع الاقتصادي العالمي.