ألقت الشرطة التونسية القبض على القيادي بحركة "النهضة" الإخوانية عبد الكريم الهاروني في 5 سبتمبر الجاري، بعد ساعات من توقيف الرئيس المؤقت للحركة منذر الونيسي على خلفية تسريبات صوتية منسوبة له أشارت لتلقي قيادات الحركة أموالًا من الخارج.
وتواصل القيادة السياسية في تونس مساعيها للتصدي لمحاولات قيادات جماعة الإخوان الممثلة في حركة "النهضة" للعودة إلى المشهد السياسي التونسي، بهدف نشر الفساد والإرهاب في البلاد، كمحاولة من قِبل قيادات الجماعة وأذرعها التي تلقت ضربات عدة خلال العامين الماضيين بعدد من البلدان العربية والغربية بتصنيفها "جماعة إرهابية"، وعليه، لم تنجح جهود إخوان تونس حتى الآن في العودة بعد أن تم إقصاؤهم من سدة السلطة في يوليو 2021، عقب قرارات حاسمة للرئيس "قيس سعيد" في 25 يوليو 2021، أنهت ما أطُلق عليه "العشرية السوداء" التي تولى فيها الإخوان السيطرة على مفاصل الدولة التونسية منذ عام 2011.
أزمة إخوانية
تجدر الإشارة إلى أنه منذ مطلع العام 2023، تلقت حركة "النهضة" الإخوانية بتونس ضربات عدة طالت أهم قياداتها، تمثلت أبرزها فيما يلي:
(*) توقيف "الغنوشي" زعيم النهضة التونسية: قبضت الأجهزة الأمنية التونسية على "راشد الغنوشي" رئيس النهضة، منتصف أبريل 2023، وذلك بعد صدور مذكرة إيقاف بحقه من النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية، بتهم ذات صلة بالإرهاب والفساد والتآمر على أمن الدولة، وفي منتصف مايو الماضي، أصدرت محكمة تونسية حكمًا بسجن "الغنوشي" لمدة عام، وقوبل الحكم برفض عارم من قِبل "النهضة" الإخوانية التي أصدرت بيانًا وقتها، نددت فيه بسجن "الغنوشي"، معتبرة أن هذا القرار "ظالم وسياسي بامتياز والهدف منه التغطية على فشل السلطة التونسية في تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية"، ودعت للإفراج الفوري عن "الغنوشي" والتوقف عن ملاحقة المعارضين للسلطة.
وبعد سجن "الغنوشي"، أصدرت الحركة الإخوانية قرارًا يقضي بتعيين "منذر الونيسي" رئيسًا مؤقتًا لها.
(*) القبض على قيادات "النهضة" الإخوانية: شهد العام 2023 تزايدًا في عمليات إيقاف السلطات التونسية لأبرز قيادات النهضة، وكان آخرها في 5 سبتمبر الجاري، فخلال يوم واحد فقط ألقي القبض على الرئيس المؤقت للنهضة "منذر الونيسي" بعد تسريب صوتي له، كشف خلاله عن فساد "النهضة" وقياداتها وعلى رأسهم "الغنوشي" وتلقيها تمويلات من الخارج كان تستخدمها في حسم أية صراعات تندلع داخل الحركة.
وبعد ساعات قليلة، ألقت السلطات الأمنية التونسية القبض على وزير النقل الأسبق "عبد الكريم الهاروني" رئيس مجلس شورى حركة النهضة، وجاء هذا القرار بعد يومين من وضعه قيد الإقامة الجبرية، ولم يذكر سببًا لتوقيف "الهاروني" إلا أنه تم اقتياده لوحدة مكافحة الإرهاب. وفي منتصف فبراير الماضي، قبضت الشرطة التونسية على وزير العدل الأسبق "نور الدين البحيري" القيادي في حركة "النهضة" الإخوانية، بتهمة التآمر على أمن الدولة.
(*) تجميد أموال "النهضة" الاخوانية: فتح القضاء التونسي بعد انتهاء فترة "العشرية السوداء" ملف "الفساد المالي" خاصة بعد بروز قضايا تلاحق قيادات من "حركة النهضة" متعلقة بعمليات "غسيل الأموال"، وبالفعل منذ 2021، صدرت أحكام عدة متعلقة بتجميد أموال بعض قيادات النهضة، جاء على رأسهم رئيس الحركة "الغنوشي" وأفراد من عائلته، ففي مطلع يوليو 2022، أصدرت محكمة تونسية إذنًا بتجميد الحسابات البنكية والأرصدة المالية لـ"الغنوشي"، وابنه "معاذ" وصهره "رفيق عبد السلام".
وكان آخر عمليات تجميد أموال لقيادات النهضة، منتصف يناير 2023، إذ كشفت وسائل إعلام تونسية عن إصدار النيابة العامة بالقطب الاقتصادي والمالي بالبلاد، إذنًا يقضي بـ"تجميد حسابات بنكية وأرصدة مالية لـ 101 شخص وشركة، بينهم قيادات إخوانية ذات صلة بحركة النهضة، ضمن قضية غسيل الأموال التي تلاحق جمعية "نماء تونس" الخيرية، وتتهم "النهضة" بأنها تقف وراء أنشطة هذه الجمعية.
تأثيرات محتملة
في إطار الضربات سالفة الذكر، يمكن القول إنها ستؤثر بلا شك على مسار الحركة الإخوانية في المشهد التونسي خلال الفترة المقبلة، وذلك على النحو التالي:
(&) تزايد الدعوات المطالبة بتصنيف "النهضة "جماعة إرهابية: لم تتخذ تونس حتى الآن قرارًا بتصنيف "النهضة" الإخوانية كـ"تنظيم الإرهابي"، رغم مطالبات عدة من السياسيين في تونس لاتخاذ هذا القرار، وارتفعت هذه المطالبات بعد عودة البرلمان التونسي (أول برلمان خالٍ من الإخوان) إلى العمل مجددًا منتصف مارس 2023، بعد تجميد الرئيس "قيس سعيد" لأعماله في يوليو 2021، لذلك في مطلع أغسطس 2023، أطلق عدد من النواب "لائحة" تهدف لحل الحركة الإخوانية وتصنيفها كـ"تنظيم إرهابي"، ورغم أن عددًا من النواب وقّعوا على هذه اللائحة إلا أنه لم يتم البت فيها، وقد أثارت جدلًا واسعًا، إذ اعتبر البعض أن حل الحركة وتصنيفها ليس من مهام البرلمان لكن بيد القضاء التونسي الذي اعتبره البعض الجهة الوحيدة لاتخاذ مثل هذا القرار، لذلك قد يتخذ القضاء هذا القرار خلال الفترة المقبلة.
(&) تصاعد ضغوط القضاء التونسي على "النهضة": إن ما كشفه "الونيسي" في التسجيلات حول الفساد المتغلغل داخل أركان الحركة الإخوانية، سيدفع الأجهزة الأمنية التونسية خلال الفترة المقبلة في البحث بصحة ما قاله الرئيس المؤقت للنهضة، كما أنه قيادي سابق في الحركة الإخوانية منذ الثمانينيات، لذلك قد يؤدي ذلك إلى ثلاثة أمور؛ أولها: إلقاء القبض على باقي قيادات النهضة الذين يثبت تورطهم في عمليات تبيض الأموال، وثانيها: وضع بعض قيادات "النهضة" تحت الإقامة الجبرية، أما الأمر الثالث: فيتثمل في تجميد أموال وأرصدة مزيد من القيادات الإخوانية، نظرًا لأن تصريحات "الونيسي" قد تدفع بعض قيادات "النهضة" لمحاولة الهروب خارج البلاد لعدم الوقوع تحت طائلة القانون، وهو أمر طالما اعتاد عليه عناصر الإخوان بدول المنطقة.
(&) مزيد من الفراغ والضمور السياسي في هيكل "النهضة": إن توقيف "الونيسي" وقيادات آخرين ومؤثرين، سيؤدي إلى بروز حالة من الفراغ السياسي داخل أركان الحركة الإخوانية، خاصة أن "الونيسي" في التسريب الصوتي الصادر عنه، كان قد قال بإن "الإشكال الكبير ليس في أن من هو داخل السجن (الغنوشي) يريد أن يواصل ويحكم بل إن من خارج السجن أيضًا يريد أن يبقى يحكم من هو داخله، لأنه مستفيد من ذلك"، وهو الأمر الذي يدل على أن "الغنوشي" (يحكم النهضة منذ 1991) لم يؤهل أية قيادات ذات كفاءة للحكم من بعده، والدليل على ذلك أنه على مدار السنوات الماضية ظل رافضًا لأن يتولى رئاسة الحركة شخصًا غيره، وهو الأمر الذي تسبب في عدم وجود تداول للسلطة داخل الحركة الإخوانية وهو الدليل على افتقادها لأية معايير للديمقراطية كما تدعي.
(&) تأجيل انعقاد مؤتمر الحركة الإخوانية: كان من المفترض أن تعقد الحركة مؤتمرها العام الـ11 منتصف أكتوبر المقبل، وفقًا لما كشفه "الونيسي" في تصريحات صحفية له في 9 أغسطس الماضي، وذلك بهدف تقييم تجربة الحركة خلال السنوات العشر الماضية، والتوافق على قيادة جديدة بديلة لـ"الغنوشي"، وكان سيتم اختيار "الونيسي"، لكن بعد إلقاء القبض عليه، فإنه الحركة قد تتجه إلى أمرين، إما، اتخاذ مجلس الشوري بالحركة قرارًا يقضي بتأجيل انعقاد المؤتمر لحين التوافق على قيادة جديدة، أو عقد المؤتمر في موعده وذلك لمحاولة إثبات أن الحركة قوية ولا تعاني من أي هشاشة أو ضعف، وهذا من أجل إعطاء انطباع للسلطة التونسية بأن النهضة لا تزال موجودة على الساحة السياسية، لكن بنهاية الأمر فإن انعقاد المؤتمر من عدمه لن يؤثر على حالة الهشاشة التي باتت تخيم على هذه الجماعة الإخوانية.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الضربات التي تتعرض لها "النهضة" الإخوانية وتوقيف رئيسها ورئيسها المؤقت، وأبرز قياداتها، مع تصاعد الصراعات داخل الحركة، قد يؤدي إلى تزايد حالة الانقسام التنظيمي بداخلها بل وتشظيها وتشرذمها إلى عدة أفرع، كما حدث مع تنظيم "الإخوان" الإرهابي في مصر، وفي الوقت ذاته، فإن محاولة إخوان تونس للعودة للمشهد السياسي مرة أخرى لن تنجح، نظرًا لتراجع شعبيتهم بشكل كبير داخل تونس.