جاء إعلان السفير الصيني لدى النيجر جيانج فينج، خلال مقابلة مع التليفزيون الوطني النيجري، مطلع سبتمبر 2023، اعتزام بلاده القيام بدور الوساطة والمساعي الحميدة في أزمة النيجر، وذلك عقب لقائه رئيس الوزراء علي محمد الأمين، المُعيّن من قبل المجلس الانتقالي في النيجر برئاسة عبد الرحمن تشياني، بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم في 26 يوليو 2023، وإشارته إلى أن الصين تنتهج دائمًا مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وتشجع الدول الإفريقية على حل مشكلاتها، ليعكس نهجًا صينيًا جديدًا إزاء التفاعل مع المشكلات الإفريقية يقوم على الانخراط المباشر في تسوية الصراعات المتفجرة، بعد أن ظلت السياسة الصينية إزاء إفريقيا قائمة على حماية المصالح الاقتصادية، وتجنب الانخراط السياسي في أزمات القارة الإفريقية.
دوافع متعددة
تتنوع دوافع الصين للقيام بدور الوساطة والمساعي الحميدة في أزمة النيجر، وهو ما يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) انخراط صيني مباشر في الأزمات: يشكل النهج الصيني الجديد في الانخراط المباشر بتسوية الأزمات الإفريقية دافعًا رئيسيًا نحو إرساء هذا المبدأ، لا سيما وأن الصين ظلت لفترات ممتدة حذرة من التعاطي السياسي مع الأزمات المعقدة، نظرًا لارتفاع تكلفتها السياسية، لذلك كانت مقاربات الصين مع الدول الإفريقية قائمة على المصالح الاقتصادية بشكل أساسي بما أدى إلى طفرة في التبادل التجاري الصيني الإفريقي ليصل إلى ما يقرب من 280 مليار دولار خلال عام 2022.
ويبدو أن دور الوساطة والمساعي الحميدة الذي مارسته الصين وحقق نجاحًا في منطقة الشرق الأوسط وأبرزها الوساطة بين السعودية وإيران، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، شجعها على تبني هذا المبدأ، مع الفارق في أن مساعيها بالنيجر بين أطراف داخلية ومتعددة تتسم مواقفها بالتعقيد في ظل تداخل الأبعاد القَبَلِيّة والهُوياتية بل وفي امتداداتها الخارجية أيضًا.
(*) حماية المصالح الاقتصادية: يأتي إعلان الوساطة الصينية في ظل تنوع المصالح الاقتصادية في النيجر لا سيما في مجال الطاقة، إذ قرر البلدان التعاون في بناء خط أنابيب نفط يمتد نحو ألفي كيلومتر، ويعد الأنبوب الأكبر في إفريقيا، ويقوم الخط بنقل البترول من حقول أغاديم في الجنوب الشرقي للنيجر وصولًا إلى ميناء سيمي في بنين. وتقوم مجموعة النفط الوطنية الصينية باستغلال استخراج النفط من حقول أغاديم بطاقة إنتاجية تبلغ 20 ألف برميل يوميًا، والتي قامت بتدشين مصفاة للنفط بجنوب النيجر، حيث تملك الشركة غالبية رأس المال فيها.
كما تبني الصين سد كاندادجي على نهر النيجر، بتكلفة إجمالية تقدر بـ1.1 مليار يورو، ويتوقع أن ينتج سنويًا 629 ميجاوات لتوفير الطاقة للنيجر والحد من اعتمادها على الخارج خاصة من نيجيريا، كما حصلت بكين على حقوق تشغيل العديد من مناجم المعادن النفيسة في النيجر.
(*) السعي لوراثة النفوذ الفرنسي: يشكل الموقف الصيني الحيادي منذ تفجر الأزمة سعيًا من بكين لوراثة النفوذ الفرنسي، ليس فقط في النيجر، وإنما في منطقتي غرب ووسط إفريقيا بشكل عام، وهي المنطقة التي شهدت إزاحة ثمانية حكام منذ 2020 حتى أغسطس 2023، وتزايدت التوقعات بأنها ظاهرة تشكل رفضًا للتغلغل الفرنسي المهيمن على ثروات تلك الدول، لا سيما وأن دولة مثل النيجر تمد فرنسا بنحو 35% من احتياجاتها من اليورانيوم الذي تستخدمه في تشغيل المحطات النووية، لإنتاج الكهرباء في حين تستورد النيجر الكهرباء من نيجيريا المجاورة.
(*) تعزيز مكانة الصين كداعم للاستقرار: تأتي الوساطة الصينية في إطار تدعيم الصورة الإيجابية للصين لدى الرأي العام النيجري، لا سيما وأنها لا تمتلك سجلًا استعماريًا في إفريقيا بشكل عام، وتقدم دعمها الاقتصادي للدول الإفريقية بدون مشروطية سياسية.
وجاء موقف الخارجية الصينية من أزمة النيجر، ليعكس هذا التوجه، إذ دعت إلى "إيجاد حل سياسي للوضع الراهن، وأن الرئيس محمد بازوم صديق للصين، نأمل في ضمان سلامته الشخصية وأن تتعامل الأطراف ذات الصلة في النيجر مع الخلافات بشكل سلمي عن طريق الحوار، انطلاقًا من المصالح الأساسية للدولة والشعب".
سيناريوهان محتملان
على الرغم من أن الوساطة تقوم -وفق ما ذكره السفير الصيني في النيجر- على أن الصين تنتهج دائمًا مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتشجع الدول الإفريقية على حل مشكلاتها، إلا أنها بلا شك تأتي في إطار سعي الصين، لتعزيز نفوذها داخل القارة الإفريقية، وهو الأمر الذي ربما يدفع بتلك الوساطة إلى سيناريوهين لا ثالث لهما، يمكن استعراضهما على النحو التالي:
(&) الأول: نجاح الوساطة الصينية في التعامل مع سياسة الأمر الواقع من خلال تأكيد الاعتراف بعملية الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، على أن يقوم المجلس الانتقالي بالإفراج عنه أو ضمان سلامته والحفاظ على صحته، وربما سيتوقف ذلك السيناريو على مدى تقبل المجلس الانتقالي لتلك الوساطة، وما إذا كانت بنودها تتماشى مع توجهات المرحلة الانتقالية، فضلًا عن ماهية الضمانات الصينية التي ستقدمها بكين، وطبيعة المنافع الاقتصادية التي يمكن أن تدعم استقرار النيجر في ظل الاحتياج الشديد لدعم اقتصادي، لمواجهة التحديات الداخلية باعتبارها من أفقر دول العالم.
(&) الثاني: فشل الوساطة الصينية، وهو السيناريو الأقل ترجيحًا لا سيما وأن المجلس الانتقالي يحتاج إلى مساندة دولية، إذا ما قررت أي من القوى الكبرى إحالة ملف الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واعتبارها أزمة تهدد السلم والأمن الدوليين، لكن هذا الأمر ربما سيكون مستبعدًا في ظل الموقف الأمريكي الذي يتبنى الحل السلمى للأزمة، وعدم مساندة توجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" بالتدخل العسكري المباشر، لإعادة المسار الدستوري، كما أرسلت الولايات المتحدة سفيرتها الجديدة إلى نيامي لمباشرة مهام عملها، وهو ما يعني ضمنًا -برغم النفي الأمريكي- الاعتراف بسلطة الأمر الواقع.
مجمل القول، إن الوساطة الصينية في أزمة النيجر تعكس تخلي الصين عن سياستها الحذرة إزاء المشكلات الإفريقية، وانخراطها بشكل مباشر في تبني المساعي الحميدة إزاء الأزمات المتفجرة، وهو الأمر الذي ربما يمثل نقطة انطلاق جديدة للسياسة الصينية في إفريقيا بشكل عام ودول الغرب والوسط الإفريقي بشكل خاص وهي تلك الدول التي ظلت تخضع لنفوذ فرنسي منذ استقلالها.
وإذا ما نجحت الصين في ترجمة وساطتها في أزمة النيجر على النحو الذي يمثل خروجًا من الأزمة بأقل تكلفة، فإن ذلك ربما سيمثل تكرارًا للوساطة الصينية في أزمات إفريقية ممتدة، بما سيثير تساؤلًا محوريًا حول مدى قدرة بكين على أن تظل طرفًا محايدًا أم سيكون لها انحيازات لأي من أطراف الأزمة في مساعيها للوساطة، وهو ما سينعكس على الصورة الجمعية لدى الرأي العام الإفريقي.