تتواصل الضربات الموجهة للمصالح الفرنسية في قارة إفريقيا، وبعدما تحول المستعمر القديم إلى صديق حميم للأجهزة الحاكمة، لتستمر في وضع قيود للسيطرة على تلك الدول، على ما يبدو فإن فرنسا في طريقها لخسارة حلفائها واحدًا تلو الآخر، فبعد النيجر جاءت الجابون، وقبلهما الكثير من التحركات من قبل القادة العسكريين الرافضين لوجود فرنسا في بلدانهم، فخلال 3 سنوات فقط، تغيرت الأنظمة الحاكمة في 9 دول في وسط وغرب القارة السمراء.
خلال الـ 3 سنوات الأخيرة، شهدت إفريقيا، 18 إضطرابا داخليا، نجح 9 منها في الإطاحة بأنظمة حاكمة، بينها 4 في دولتين فقط، 2 منهم في مالي ( أغسطس 2020، ومايو 2021)، وفي بوركينا فاسو ( يناير 2022 و سبتمبر 2022).
وجاءت قائمة الـ 7 دول، ومنها 6 كانت مستعمرات فرنسية هي " مالي وغينيا في 2021 وبوريكينا فاسو وتشاد في إبريل 2021 والنيجر والجابون العام الحالي".
كعقد انفرط، خسرت فرنسا الحكومات الموالية لها في إفريقيا، لتتغير قواعد اللعبة بالقارة، في وقت يتصاعد الصراع بين الغرب وروسيا من جهة، والغرب والصين من أخرى.
حصلت الجابون، الدولة الواقعة على الساحل الغربي لإفريقيا، على استقلالها عن فرنسا عام 1960، ومنذ ذلك الوقت، حكمها عدد قليل من الزعماء، فحكم عمر بونجو لأكثر من 4 عقود، حتى وفاته في عام 2009، وطوال فترة رئاسته حصلت فرنسا على مزايا تجارية، في ظل نظام يعرف باسم "Francafrique"، حيث تلقى رئيس الجابون الدعم السياسي والعكسري مقابل تلك المزايا.
العلاقة الوثيقة بين الجابون وفرنسا، أصيبت بالفتور، عقب فوز علي بونجو في الانتخابات عام 2009، لتفتح السلطات الفرنسية قضايا متعلقة بالفساد حول أملاك عائلة بونجو داخلها، قبل أن يطيح ضباط الجيش به من السلطة، لتلحق الجابون بكل من النيجر وتشاد ومالي وغينيا وبوركينا فاسو.
خطر جديد يواجه فرنسا
أصبحت فرنسا أمام خطر جديد لخسارة أحد أبرز حلفائها في القارة السمراء، فالجابون التي كانت تحظى فيها بمزايا تجارية، هي إحدى الدول الرئيسية المنتجة للنفط، ورغم ذلك يعيش ثلث سكانها في فقر مدقع، بحسب البنك الدولي.
صحيفة نيويورك تايمز، أشارت إلى أن ماحدث في الجابون، يمثل ضربة جديدة لمصالح فرنسا، إذ كان "بونجو" وعائلته من أقوى حلفائها في القارة السمراء، وتهيمن الشركات الفرنسية، على صناعة النفط بها، فيما يتمركز نحو 400 جندي في البلاد، معظمهم في قاعدة كامب ديجول العسكرية في العاصمة ليبرفيل.
وبحسب فرانس برس، كانت الجابون في 2022، أهم وجهة للصادرات الفرنسية بين دول المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC)، وكشفت أرقام وزارة المالية، أن فرنسا باعت بضائع بقيمة 536 مليون يورو، في الجابون.
ويرى مراقبون، أنه لا يمكن فصل ما حدث في الجابون، عن السياق الأشمل، مرجحين ضلوع روسيا متمثلة في مجموعة فاجنر العسكرية الخاصة في ما حدث، معتبرين أن موسكو أحرزت هدفًا جديدًا في مرمى الغرب، وأن المواجهة لا تقتصر على ساحة المعركة في أوكرانيا فقط، وإنما تتوسع لتشمل القارة السمراء، بحسب "دويتشه فيله".
أزمة النيجر
أزمة الجابون، جاءت في وقت كانت فرنسا مشغولة بما حدث في النيجر، وأزمتها الدبلوماسية التي وصلت إلى حد طرد السفير، بعد أن كانت الحليف الأبرز للرئيس محمد بازوم، الذي نحاه المجلس الانتقالي عن السلطة، لتواجه خطر فقدان الدولة التي كانت توفر لها مخزونات ضخمة من اليورانيوم.
"بازوم" كان حليفًا قويًا لفرنسا في حربها ضد المتشددين، وشريكًا اقتصاديًا قويًا، وكان يعد من بين آخر القادة الموالين لها في منطقة الساحل الإفريقي.
وتعد النيجر إحدى الدول الغنية بموارد الطاقة، وتمتلك واحدًا من أكبر احتياطات العالم من اليورانيوم، وتعد سابع أكبر منتج له، فضلًا عن كميات كبيرة من احتياطات الذهب والنفط.
سيطرت فرنسا الاستعمارية على أجزاء من النيجر في أواخر القرن التاسع عشر، لكن النيجر الحالية، أصبحت مستعمرة فرنسية عام 1922، ونالت استقلالها في نفس العام الذي حصلت فيه الجابون على استقلالها 1960، ورغم انتهاء الحقبة الاستعمارية، لم تنته المصالح الفرنسية، وأصبحت النيجر حليفا لباريس، واستضافت قاعدة عسكرية فرنسية بها نحو 1500 جندي.
خسارة فرنسا للنيجر، تعني خسارة 35% من احتياجاتها من اليورانيوم، المستخدم في المحطات النووية.
تنامي الدور الروسي في القارة السمراء
أثار التقارب الروسي مع القارة السمراء غضبًا غربيًا، إذ شهدت السنوات الأخيرة، تنافسًا على النفوذ التقليدي في المنطقة، خاصة بعدما استضافت موسكو القمة الروسية الإفريقية الأولى في 2019، بحضور ممثلين عن جميع قادة القارة بالـ54 دولة.
وفي وقت تسعى فيه موسكو لتعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول غرب إفريقيا، إلى جانب تعزيز وجودها العسكري من خلال مجموعة فاجنر، شهد التواجد الروسي المزيد من الانتشار في القارة. ففي مالي مثلا، أقام البلدان علاقات وثيقة، وتواجدت مجموعة فاجنر، والمعدات العسكرية الروسية هناك.
وفي دول الساحل الثلاثة، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أُطيح بالأنظمة الموالية لفرنسا، وجاءت أخرى مدعومة بخطاب قومي ومظاهرات مناهضة للمحتل السابق.
وواصلت روسيا مغازلتها للدول الإفريقية، في ظل حديث عن نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إن الغرب لم يستطع عزل موسكو، مشيرًا إلى أن روسيا تستعد لتوريد الحبوب للدول الإفريقية مجانًا، تنفيذا لحديث الرئيس الروسي خلال القمة الروسية الإفريقية الأخيرة.
وأوضح أنه من المخطط توريد 50 ألف طن من الحبوب لكل دولة من الدول الستة الأكثر احتياجا في القارة، وهي "بوركينا فاسو وزيمباوبي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا".
وتتنامى المخاوف الغربية، بشأن تراجع النفوذ الغربي في القارة السمراء، مقابل ازدياد النفوذ الروسي من جهة والنفوذ الصيني من جهة أخرى، خاصة مع تراجع دول بعض الدول الأوروبية في القارة السمراء وعلى رأسها فرنسا.