عندما أطيح برئيس الجابون ليون مبا، في عام 1964، سارع الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديجول إلى التحرك، وأرسل على الفور قوات فرنسية لإعادة مبا إلى السلطة.
وبفضل ما تمتلكه من ثروة معدنية كبيرة وخاصة الحديد، كانت الجابون المستقلة حديثًا بمثابة جوهرة في تاج المستعمرة الفرنسية السابقة، وكان ديجول حريصًا على حماية مصالح فرنسا.
وبعد ما يقرب من 60 عامًا، ما حدث مع مبا، تكرر مع الرئيس علي بونجو، الذي أطاح به قائد الحرس الجمهوري، لكن هذه المرة لن يكون هناك سلاح فرسان فرنسي للإنقاذ، حيث خسرت باريس حليفًا وثيقًا آخر، وهي علامة، كما يقول المحللون، على تراجع النفوذ الفرنسي، وفق ما ذكرت شبكة " سي. إن. إن" الإخبارية الأمريكية.
في أعقاب الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخرًا، شهدت الجابون تحولا مذهلًا في الأحداث، إذ اقتحم ضباط من الجيش التلفزيون الحكومي في الجابون، أول أمس الأربعاء، وأعلنوا الاستيلاء على السلطة وألغوا النتائج وحلوا الدستور.
ودوت أصوات إطلاق النار في شوارع العاصمة ليبرفيل مع إعلان الجيش نهاية خمسة عقود مذهلة من حكم عائلة بونجو. واهتزت الشوارع لاحقًا بأصوات الهتافات والابتهاج حيث احتفل الشعب بنهاية السلالة التي أثرت عائلة بونجو بشكل كبير على حساب مواطنيهم.
وأعلن المجلس العسكري في وقت لاحق أن الجنرال بريس أوليجوي نجويما، سيكون بمثابة الزعيم الانتقالي، وأن السلطات ستحقق في الاتهامات الموجهة ضد نجل الرئيس، نور الدين بونجو فالنتين، الذي اعتقل مع ستة أفراد آخرين بتهمة "الخيانة العظمى".
ورغم أن المجتمع الدولي أدان ما حدث في الجابون، إلا أنه لم يجتذب نفس الانتقادات الشديدة التي تعرض لها نفس الأحداث التي وقعت الشهر الماضي في النيجر.
وكان بونجو تعرض لمحاولة الإطاحة به في عام 2019، بعد أن أضعفته إصابته بسكتة دماغية في عام 2018.
لكن هذه المرة، يقول المحللون إن عصر بونجو قد انتهى. ونقلت "سي. إن. إن" عن ألوول أوجيويل، من معهد الدراسات الأمنية: "إن الشعب الجابوني يريد فقط إنهاء حكم الأسرة التي لم تحسن ظروفهم الاقتصادية منذ خمسة عقود".
وقالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، إن بلادها تراقب الأحداث في الجابون بأقصى قدر من الاهتمام.
فرنسا خسرت نفوذها في 8 دول إفريقية
وتمثل الأحداث الجارية الآن في الجابون، تحديًا لفرنسا، التي خسرت نفوذها، حتى الآن، في ثماني من مستعمراتها السابقة في غرب ووسط إفريقيا، خلال ثلاث سنوات فقط، مع تزايد المشاعر المعادية لفرنسا.
على سبيل المثال، طردت مالي القوات الفرنسية وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع باريس. كما قامت بتغيير اللغة الرسمية من الفرنسية لصالح اللغات المحلية المالية. بينما في السنغال، تعرضت المصالح التجارية الفرنسية للهجوم.
وقال كريس أوجان موديدي، محلل الشؤون الخارجية الذي يعيش في داكار، بالسنغال، لـ "سي. إن. إن" إن السياسة الفرنسية لا تحظى بشعبية. وهناك كل هذه الاحتجاجات والناس يهاجمون الشركات الفرنسية التي تمثل بالنسبة للكثير من الناس هنا الاستعمار الفرنسي الجديد.
وفي النيجر، صدرت أوامر للسفير الفرنسي بمغادرة البلاد، لكنه لا يزال في منصبه لأن فرنسا تقول إنها لا تعترف بالسلطة الجديدة هناك.
وتجمعت حشود كبيرة مؤيدة للسلطة الجديدة في النيجر، الأحد الماضي، بالقرب من القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بانسحاب القوات الفرنسية.
وتشير "سي. إن. إن" إلى أن المشهد السياسي المتطور، كشف عن هشاشة أنظمة الحكم التي أنشأتها في الأصل القوى الاستعمارية.
ونقلت الشبكة عن أوجان موديدي: "إن أنظمة الحكم التي كانت موجودة في المستعمرات الفرنسية السابقة، والتي فرضتها باريس، لم تعد صالحة لهذا الغرض. في بلد مثل الجابون، تحكم عائلة واحدة منذ حوالي 50 عامًا، وهذه ليست حكومة أو مملكة، وهم ليسوا استثناءً".
وحسب الشبكة، هذه الظاهرة لا تقتصر على الجابون وحدها؛ فصداها يتردد في جميع أنحاء إفريقيا الوسطى، حيث تتمتع دول مثل الكونغو برازافيل وغينيا الاستوائية بزعيم واحد حكم لأكثر من أربعة عقود. وفي الكاميرون، يتولى بول بيا، البالغ من العمر 90 عامًا، منصب الرئيس منذ عام 1982 ويقسم وقته بين فرنسا وسويسرا، وبالكاد يقضي أي وقت في الكاميرون.
ومع ذلك، فإن زعماء الغرب، وفرنسا على وجه الخصوص، يغضون الطرف عنه وعن آخرين من أمثاله.
وكما يقول أوجان موديدي: "إن الأحداث الجارية في الجابون، التي وقعت في أعقاب أحداث النيجر، تسلط الضوء مرة أخرى على علاقة فرنسا المختلة مع مستعمراتها السابقة في إفريقيا".
المشاعر المناهضة لفرنسا
وهذا التحول في الوعي السياسي الإفريقي، الذي تحركه إلى حد كبير التركيبة السكانية الشبابية في القارة، يؤجج المشاعر المناهضة لفرنسا.
ويؤكد متوسط العمر البالغ 20 عامًا في جميع أنحاء إفريقيا، التطلع إلى التغيير بين الشباب، ما يدفعهم إلى البحث عن شراكات متنوعة تتجاوز الروابط التاريخية مع فرنسا.
ويقول أوجان موديدي: "إن الشباب الإفريقي ليس لديهم أي ارتباط بفرنسا، مثل آبائهم أو أجدادهم. إنهم لا يعتقدون أن لفرنسا الحق في العودة إلى بلدانهم، ويريدون تعدد الشركاء، وليس فرنسا فقط".
من بين هؤلاء الشركاء روسيا، التي كانت حريصة على توسيع علاقاتها في القارة، حيث يعتقد البعض أنها تتفوق على الولايات المتحدة في المناورة، مع ميل بعض الزعماء الأفارقة للكرملين على نحو متزايد.
ويحرص آخرون على سد الحواجز اللغوية أيضًا. على سبيل المثال، قامت مجموعة الكومنولث، التي تضم في عضويتها 54 دولة، بضم الجابون وتوجو إلى صفوفها مؤخرًا، وهو المحور الذي يشير إلى الرغبة المتزايدة في الارتباط بالدول الناطقة باللغة الإنجليزية.
التخلي عن "الفرنك"
وما يكشف عن تراجع النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة، الدعوات إلى التخلي عن "الفرنك" الذي يمثل العملة الوطنية لـ14 دولة في غرب ووسط إفريقيا، منها النيجر والجابون.
ودعا الخبير الاقتصادي السنغالي ندونجو سامبا سيلا إلى إلغاء الفرنك الإفريقي. وقال في مقابلة عام 2019: "بالنسبة لأولئك الذين يأملون في تصدير منتجات تنافسية، أو الحصول على ائتمان بأسعار معقولة، أو العمل من أجل تكامل التجارة القارية، أو النضال من أجل إفريقيا خالية من السيطرة الإمبريالية، فإن فرنك الاتحاد المالي الإفريقي يمثل مفارقة تاريخية تتطلب القضاء المنظم والمنهجي".
تراجع الوجود العسكري الفرنسي
وتحتفظ فرنسا أيضًا بقوات عسكرية في العديد من مستعمراتها السابقة، وشاركت في عملية واسعة النطاق، مثل "برخان" في النيجر، والتي اضطرت إلى الانسحاب منها مؤخرًا.
وتمتلك فرنسا نحو 400 جندي في الجابون. مع العلم بأنه قد تم طرد قواتها من مالي وبوركينا فاسو، كما أن النظام الجديد في النيجر مُصِر على رحيل الفرنسيين أيضًا.
كما أعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا صياغة سياسة فرنسا الجديدة تجاه إفريقيا، وقال إن قواعدها العسكرية ستدار الآن بشكل مشترك مع الدول.