زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، العاصمة العراقية بغداد في 22 أغسطس 2023، استمرت يومين، وتعد الأولى منذ توليه منصبه في يونيو الماضي، ووفقًا لبرنامج الزيارة فإن "فيدان" توجه أيضًا إلى عاصمة إقليم كردستان أربيل، ذات الأغلبية الكردية، وهو ما يعني رغبة تركيا في تحقيق توزان بعلاقاتها مع بغداد وأربيل، ووضع حد للقضايا العالقة بين البلدين، ومن أبرزها: "تهديدات العمال الكردستاني" لتركيا، و"تعثر إمدادات النفط العراقي إلى تركيا" و"شُحّ المياه في العراق"، وذلك من أجل التمهيد لشراكة استراتيجية موسعة، تشمل مختلف المجالات بين البلدين.
والتقى وزير الخارجية التركي والوفد المرافق له، خلال هذه الزيارة، الرئيس العراقي "عبد اللطيف رشيد"، ورئيس الوزراء العراقي "محمد شيّاع السوداني"، كما عقد مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا مع وزير الخارجية العراقي "فؤاد حسين"، واجتمع مع رئيس إقليم كردستان "نيجيرفان بارزاني"، ورئيس وزراء الإقليم "مسرور بارزاني"، ووزير داخلية الإقليم "ريبر أحمد".
نتائج أولية
ناقش الوزير التركي مع المسؤولين في بغداد وأربيل جملة من القضايا المشتركة، أسفرت عن نتائج أولية لهذه الزيارة، يتمثل أبرزها فيما يلي:
(*) تشكيل لجنة مشتركة لمعالجة أزمة نقص المياه بالعراق: طغى "ملف المياه" على مباحثات وزير الخارجية التركي في العراق الذي يعاني بشدة من أزمة نقص في المياه، ناجمة عن انخفاض تدفق المياه العابرة للحدود في نهري دجلة والفرات، وهو ما تسبب في عدم حصول بلاد الرافدين على حصة عادلة وكافية من المياه تغطي احتياجات الشعب العراقي، مما أثر بشكل كبير على أوضاع ومصالح العراقيين، إذ أثر الجفاف على الأنشطة الزراعية والاقتصادية بالعراق. وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن المباحثات التركية العراقية، التي نجم عنها الإعلان عن "تشكيل لجنة مشتركة دائمة لمعالجة أزمة المياه"، قد تؤمن حصول العراق على حصة عادلة من المياه، وهو أكده وزير الخارجية التركي، قائلًا: "توصلنا لتشكيل لجنة مشتركة دائمة مع الجانب العراقي بشأن المياه، ونعمل على أعلى المستويات لحل المشكلات العالقة بين البلدين"، مؤكدًا أن "الحكومة التركية تتعامل مع قضية المياه من وجهة نظر إنسانية بحتة".
(*) تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أنقرة وبغداد: سلطت الزيارة الضوء على مساعي البلدين لتعزيز وتطوير وتوسيع آفاق التعاون المشترك بالمجالات الاقتصادية والتجارية بما يخدم تطلعات ومصالح الشعبين العراقي والتركي، إذ إن حجم التبادل التجاري بينهما يبلغ 25 مليار دولار خلال العام 2023، مقارنة بـ15 مليار دولار تقريبًا خلال عام 2022، ورغم ذلك فقد وصف وزير الخارجية التركي حجم التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة بأنه "أقل من إمكانيات البلدين".
وفي ضوء ذلك، أكد حرص الحكومة التركية على زيادة الأنشطة التجارية مع بلاد الرافدين، وفي الوقت ذاته دعا دول منطقة الشرق الأوسط لتقديم الدعم اللازم لمشروع طريق التنمية لربط دول الخليج وآسيا مع أوروبا عبر العراق، قائلًا إن "هذا المشروع سيجلب الازدهار للعراق والمنطقة ويحول العراق إلى مركز للتنمية في المنطقة".
(*) بحث ترتيبات زيارة "أردوغان" المرتقبة: تطرقت مباحثات وزيري الخارجية التركي والعراقي إلى مناقشة ترتيبات الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بغداد، للتوقيع على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المشتركة بين البلدين، إذ من المتوقع أن يزور "أردوغان" بلاد الرافدين خلال هذا العام لكن لم يحدد "فيدان" موعد الزيارة، إلا أنه قبل أيام من زيارة وزير الخارجية التركي العراق، كشف عدد من المسؤولين العراقيين لوسائل الإعلام بأن الرئيس "أردوغان" كان من المفترض أن يزور البلاد في أغسطس الجاري ولكن الزيارة تم تأجيلها إلى سبتمبر المقبل، وأفادوا بأن زيارة "فيدان" جاءت من أجل التحضير لزيارة الرئيس التركي وتمهيد الطريق لتعزيز فرص التعاون المتبادل من خلال إبرام اتفاقات مباشرة خلال زيارة الرئيس التركي، وهو ما أكده وكيل وزارة الخارجية العراقية هشام العلوي، قائلا، في تصريحات له في 23 أغسطس الجاري: "الرئيس التركي سيزور العراق الشهر المقبل، وزيارة وزير الخارجية التركي الآن وزيارة وزير الاقتصاد والتجارة التركي في وقت لاحق، تمهيدًا لزيارة أردوغان"، وكشف المراقبون أن هذه الزيارات ستسهم في إعادة تفعيل أنشطة المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين الذي أنشئ عام 2008، وتوقف عن العمل جراء عدم الاستقرار بالأراضي العراقية وانتشار التنظيمات الإرهابية.
(*) توسيع مجالات التعاون الأمني بين كردستان وتركيا: حرص الوزير "فيدان" خلال زيارته أربيل، واجتماعه مع رئيس إقليم كردستان "بارزاني" ووزير داخلية الإقليم، على إيصال رسالة مفادها أن أنقرة حريصة على توسيع مجالات التعاون مع الإقليم الواقع بشمال العراق، خاصة الطاقة ومكافحة الإرهاب، حيث ترفض تركيا بشدة أنشطة حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) الناشط بشمال العراق، ويشكل تهديدًا لتركيا التي تصنفه "تنظيمًا إرهابيًا"، وتوجه بشكل مستمر ضربات لتحجيم نفوذ هذا الحزب، ولكنها لم تنجح حتى الآن في ذلك. وعليه، فهي حريصة على تعزيز التعاون الأمني سواء مع الحكومة في بغداد أو بإقليم كردستان.
(*) حلحلة ملف تعثر إمدادات النفط العراقي إلى تركيا: لا تزال هذه الأزمة عالقة بين بغداد وأنقرة، لذلك جاءت على رأس أجندة زيارة وزير الخارجية التركي، نظرًا لكون ملف تصدير النفط المنتج في إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، تسبب خلال الفترة الأخيرة في توتر العلاقات العراقية التركية، وذلك بعدما اتخذت أنقرة في 25 مارس الماضي، قرارًا يقضي بوقف أكثر من 450 ألف برميل من النفط الخام كانت تستوردها يوميًا من شمال العراق (400 ألف برميل من مناطق إقليم كردستان، و70 ألفًا من الحكومة الاتحادية في بغداد، وفقًا لوزارة النفط العراقية)، وجاء القرار ردًا على الحكم الذي أصدرته غرفة التجارة الدولية في باريس لصالح العراق يقضي بحصوله على تعويضات من أنقرة تقدر بنحو 1.47 مليار دولار، في القضية التي رُفعَت عام 2014، والتي اتهمت تركيا بالحصول على النفط الخام من إقليم كردستان دون إذن الحكومة الفيدرالية العراقية التي تريد الحصول على كل أموال النفط المستخرج من الإقليم، وهو ما علق عليه الرئيس "أردوغان" منتصف يوليو الماضي، قائلًا: "تأخر عودة الإمدادات ودفع التعويضات سببه الخلاف المتواصل بين الحكومة الفيدرالية وحكومة الإقليم". وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن تركز زيارة "أردوغان" المرتقبة العراق على التوصل لحل بشأن هذا الملف، وذلك بعدما وقعت الحكومة الاتحادية وحكومة كردستان على "اتفاق مؤقت" في أبريل الماضي، لاستئناف صادرات الخام عبر تركيا.
دلالات التوقيت
مما تقدم، يمكن القول إن أهمية زيارة وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان" العراق، تنعكس من توقيتها، إذ إنها تأتي بالتزامن مع تحركات عراقية وتركية لحلحلة الأزمات العالقة بين البلدين، إذ سبقها بعض التطورات، من أبرزها، ما يلي:
(&) زيارات متبادلة من الجانبين العراقي والتركي: ركزت على حل أزمة صادرات النفط من شمال العراق إلى تركيا، منها، زيارة فريق عراقي بقيادة باسم خضير، نائب وزير النفط العراقي، وممثلون من حكومة إقليم كردستان، تركيا في يوليو الماضي، وعقدهم لقاءً مع وفد فني من وزارة الطاقة التركية لمناقشة استئناف تصدير النفط عبر شمال العراق، ولكن هذه الزيارة لم تسفر عن أي نتيجة فعلية بالملف، وهو ما دفع وزير النفط العراقي حيّان عبد الغني، إلى زيارة العاصمة التركية أنقرة في 22 أغسطس الجاري، وعقد لقاءٍ مع نظيره التركي "ألب أرسلان بيرقدار" حول ملف النفط، ومع ذلك كشفت مصادر مطلعة لوكالة "رويترز" أن هذه الزيارة فشلت أيضًا في التوصل لاتفاق بشأن استئناف صادرات النفط من شمال العراق إلى تركيا، ولكنها كشفت أن الطرفين العراقي والتركي، اتفقا على إجراء مزيد من المحادثات لحل هذه الأزمة ولكن بعد الانتهاء من عمليات التأهيل والفحص اللازمة لخطوط الأنابيب العراق-تركيا التي تضررت جراء زلزال "كهرمان مرعش"، الذي ضرب جنوب تركيا في فبراير الماضي.
ومن الجانب التركي، زار وزير النفط "ألب أرسلان" أربيل في 24 أغسطس الجاري، وبحث مع رئيس وزراء الإقليم "مسرور بارزاني" ضرورة استئناف تصدير نفط إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، وإزالة جميع العقبات التي تواجه هذا الموضوع، وتطوير العلاقات التجارية بين أنقرة وأربيل، وفقًا لما أعلنه "بارزاني" في تغريده على حسابه بموقع "إكس".
(&) استمرار الضربات التركية بشمال العراق: تأتي هذه الزيارة بالتزامن مع ضربات برية وجوية تشنها تركيا بشكل متواصل ضد عناصر حزب العمال الكردستاني بشمال العراق، والتي كان آخرها في 24 أغسطس الجاري (في ختام زيارة "فيدان" أربيل)، حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية، تنفيذ ضربة بطائرة مُسيّرة تركية في منطقة سيدكان بمحافظة أربيل، نجم عنها مقتل ثلاثة من عناصر حزب العمال، وجاءت هذه الضربة بعد مقتل جندي تركي خلال هجوم للحزب الكردي على قاعدة عسكرية تركية في شمال العراق.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الحراك التركي العراقي القائم في الوقت الراهن، يعكس رغبة البلدين في حلحلة الأزمات العالقة بينهما والعمل من أجل توسيع علاقات التعاون المشتركة خاصة بمجالات المياه والطاقة والاقتصاد والإرهاب، ومن المتوقع أن تظهر ملامح هذا الحراك ونتائجه الفعلية في أعقاب الزيارة المرتقبة للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" العراق، التي ستكون الأولى له منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة في مايو الماضي. وعليه، قد تكون هذه الزيارة في حال تم إجراؤها في سبتمبر المقبل (كما هو معلن) البداية لإعادة الشراكة الاستراتيجية بين العراق وتركيا لتشمل المجالات كافة.