"قيثارة الشرق وصاحبة السكون الصاخب في صوتها حنان الأرض"، هكذا وصف الموسيقار محمد عبد الوهاب موهبة المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة، والتي تفردت بصوت ملائكي لا يشبه أحدًا، ونعومة وعذوبة صوت تأسر المسامع، فثمة خيوط حريرية ربطتها بالمستمع.
منذ 85 عامًا ولدت نجاة محمد كمال حسني البابا، في مثل هذا اليوم 11 أغسطس عام 1938، وقد ورثت الموهبة عن والدها الدمشقي، الذي كان يعمل خطاطًا، وساهم في تنميتها وتدريبها وساعدها على الغناء لأم كلثوم، إذ كان يطمح أن تكون خليفتها، فحفظت أغانيها وقلدتها، إلا أن نجاة تمردت على ذلك رغبة منها في تكوين شخصية غنائية مستقلة، لتمر السنين وتصبح لها بصمة وأداء متفردًا لا يشبه أحدًا.
بزغت موهبة نجاة الصغيرة منذ الصغر، وتحديدًا قبل أن تتجاوز الـ 5 سنوات، فلفتت أنظار عائلتها بصوتها الحنون الذي وصفه الدكتور مصطفى محمود بأنه يشبه طعم "الكريم كراميل"، مليء بالشجن والعاطفة والنعومة، بينما وصف الشاعر نزار القباني صوتها بأنه يعبر عن أعماق الأنثى الضعيفة، التي تخاف البوح عما بعالمها من أحاسيس.
"أعيش داخل لؤلؤة الفن، فأنا أحب الناس ولكني خجولة جدًا، وتسيطر الحساسية على شخصيتي ولذلك لا أحب الظهور كثيرًا فأنا لا أجيد الحديث بقدر ما أجيد الغناء"، هكذا بررت نجاة الصغيرة غيابها الدائم عن التواصل مع الجمهور، ولكنها تتخلى عن عباءة الخجل مع صعودها على خشبة المسرح فتحتضن الجمهور بصوتها الدافئ وتشكّل معه مزيجًا من المحبة الصادقة، فتقول عن ذلك: "رغم خجلي الشديد ولكني عندما أقف على خشبة المسرح أتحول لشخص آخر، فالمسرح هو العشق"، ولذلك وصفها كمال الطويل بأنها أفضل أداءً على مستوى العالم العربي.
طرقت الشهرة أبواب نجاة الصغيرة، في عمر الصبا، وخطفتها كاميرا السينما قبل تجاوز الثامنة من عمرها فشاركت في فيلم "هدية"، ثم تبعتها بتقديم عدد كبير من الأفلام كان من أهمها وأبرزها فيلم " الشموع السوداء" مع الراحل صالح سليم وفؤاد المهندس، كما تعاونت مع الفنان رشدي أباظة في فيلم " ابنتي العزيزة"، وكان للكوميديا نصيب من مشوارها السينمائي القصير مثل مشاركتها في فيلم "شاطئ المرح" مع حسن يوسف، فبلغ رصيدها السينمائي 13 فيلمًا على مدار 30 عامًا إذ كانت تدقق في اختياراتها ولكنها فضلت الابتعاد عن السينما في فترة شبابها بعمر الـ 37 عامًا، واكتفت بالغناء فقط لجمهورها.
تبنى الموسيقار محمد عبد الوهاب موهبتها وحرص على تدريبها وتعليمها، وكان دائمًا يؤكد أنه يشعر أن ألحانه بمأمن عندما تغنيها، واتفق معه نزار القباني قائلاً "نجاة تجتذب الملايين في العالم العربي، وهي أفضل المطربين الذين غنوا وعبروا عن قصائدي"، وكانت "أيظن" أول أغنية تغنيها نجاة لـ "القباني"، لتؤكد أنها متقنة الصنع متكاملة العناصر وهي السبب في بقائها لأكثر من 60 عامًا.
" أنا لم أصنع نفسي ولكن عشرتي مع الفنانين الكبار أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم ساهمت في تشكيل وتكوين شخصيتي وتقييم الكلمة واللحن"، جملة سرت على لسان قيثارة الطرب، التي لم تنس دعم محمد عبد الوهاب لمشوارها، إذ وصفته بأنه كان أكبر داعم لها وساهم في بنائها قائلة: "أكبر حصيلة أخذتها منه، وهو ليس أستاذا في التلحين فقط ولكن كنت آخذ منه استشارة قانونية وطبية، فهو موسوعة كبيرة والموهوب من استفاد منه، ولذلك كنت مثل الإسفنجة اكتسبت منه الكثير".
كانت موهبة نجاة حديث المثقفين والشعراء والمفكرين على مستوى الوطن العربي، والتي يعتبرها البعض بأنها تفوقت على شهرة أم كلثوم، وأدارت موهبتها بذكاء وأحاطت نفسها بأفضل الملحنين والشعراء مثل بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل وسيد مكاوي، عبد الرحمن الأبنودي ونزار القباني، ولذلك حصدت الكثير من الجوائز والأوسمة منها وسام من الرئيس جمال عبد الناصر، وأيضًا 3 أوسمة من رؤساء دولة تونس وأيضًا وسام الاستقلال من ملك دولة الأردن، وغيرها الكثير من الجوائز.
فاجأت نجاة جمهورها بإعلان اعتزالها حفاظًا على تاريخها عام 2003، ولكنها تراجعت عن هذا القرار وقدمت أغنية "كل الكلام" عام 2017 من كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، والملحن طلال، حتى أنها اكتفت بالاستعانة بصور قديمة لها تم تركيبها على فيديو كليب، إذ فضلت الغياب عن الأضواء منذ سنوات طويلة، ولكن صوتها لم يغب عن القلب.