رغم إن الأزمة الروسية الأوكرانية حفزت الغرب للدفاع عن بلد ديمقراطي، لكنها فشلت في تحقيق صدى بأجزاء أخرى كثيرة من العالم، فبلدان الجنوب غير مبالية إلى حد كبير أو منزعجة فقط مما تسببت فيه الحرب من إزعاج لاقتصاداتها.
ويشير المراقبون إلى أن البلدان في جنوب الكرة الأرضية تنظر إلى الصراعات المهملة التي تدور رحاها في أعناقهم، ومع ذلك، فإن بعض الذين لا يزالون على الحياد لا يمارسون حيادًا سلبيًا، بل يسعى العديد منهم بنشاط إلى إنهاء الحرب.
وجاءت مجموعة كبيرة من خطط السلام من بلدان في الجنوب العالمي في الأشهر الأخيرة، مع مبادرات منفصلة قدمتها بلدان مثل: البرازيل وإندونيسيا ومجموعة من البلدان الإفريقية، رغم ميل المراقبين الغربيين إلى رفض هذه المقترحات تمامًا أو عدم إعطائها الكثير من الاهتمام، وذلك بحسب مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
لا رغبة حقيقية بوقف الصراع
من المؤكد أن الظروف في ساحة المعركة يجب أن تتغير بشكل حاسم قبل أن تكون موسكو أو كييف على استعداد للدخول في مفاوضات هادفة نحو إنهاء الصراع، فروسيا وأوكرانيا لم ينجرا بعد إلى مأزق مؤذٍ للطرفين من شأنه أن يجبرهما على الجلوس على طاولة المفاوضات، فالمناقشات التي أجريت منذ بدء الصراع في العام الماضي توضح بجلاء أن لا أحد من الطرفين يسعى حاليًا إلى وقف إطلاق النار أو إنهاء دبلوماسي للحرب.
ويبدو أن روسيا تميل نحو حرب طويلة الأمد، معتقدة أنها لها اليد العليا على المدى الطويل، وعلى الرغم من أنها قد لا تعارض وقف إطلاق النار، لكن الكرملين لن يتنازل عن الأراضي التي استحوذ عليها، بينما تعتقد الحكومة في كييف، التي تعتمد على الدعم الشعبي الهائل لقواتها، أن الزخم في صالحها، لكن بدون تحقيق المزيد من الانتصارات الكبرى في ساحة المعركة، فإن أوكرانيا سوف تتفاوض فقط من موقع الضعف.
الهند ستفعل "كل ما في وسعها" للمساعدة في إنهاء الحرب
وتابعت المجلة الأمريكية أنه في حالة عدم التوصل إلى حل نهائي، لا يزال بإمكان الدبلوماسية أن تساعد في الحد من الدمار الذي خلفته الحرب وتخفيف آثارها على الاقتصاد العالمي، فدول الجنوب العالمي التي لم تساند جانبًا واضحًا في الحرب، هي في وضع أفضل من الدول الغربية أو الصين لتكون بمثابة حكام محايدين في محاولة بناء عملية دبلوماسية، ويمكن أن تساعد في كبح تجاوزات الحرب وإرساء أسس وقف إطلاق النار، أو اتفاقية السلام.
وتعد الهند -كقوة مهمة تم التودد إليها بجدية من قبل كل من روسيا وأوكرانيا منذ بداية الحرب- ذات دور مهم، إذ سمح رفض نيودلهي بإدانة الهجوم الروسي علانيةً لها بالحفاظ على علاقاتها التاريخية مع موسكو، لكنها أيضًا في العام الماضي استعادت علاقاتها مع أوكرانيا، عندما التقى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على هامش قمة مجموعة السبع في اليابان في أواخر مايو، حيث أكد له أن الهند ستفعل "كل ما في وسعها" للمساعدة في إنهاء الحرب.
ومن خلال القيام بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، يمكن للهند تسهيل المحادثات التي تشتد الحاجة إليها بين الأطراف المتحاربة، وتخفيف الأثر الإنساني للصراع، والمساعدة في تخفيف الضرر الاقتصادي الذي أحدثته الحرب على دول جنوب الكرة الأرضية، ولا ينبغي للهند أن تبالغ في تقدير ما يمكن أن تحققه، ولكن لا ينبغي لها أن تخاف من تقديم نفسها كحكم وتأكيد أفكارها في الصراع.
خطوات نيودلهي
كان الاجتماع بين مودي وزيلينسكي بمثابة تحول ملحوظ في نهج الهند تجاه أوكرانيا، فعلى مدى الأشهر العديدة الماضية، اتخذت نيودلهي خطوات تشير إلى أنها بدأت أخيرًا التعامل مع أوكرانيا بجدية، بما في ذلك تسهيل المحادثات بين رئيس الأركان الأوكراني أندريه يرماك، ومستشار الأمن القومي لمودي، أجيت دوفال، حول العلاقات الثنائية بين الهند وأوكرانيا، خطة سلام من عشر نقاط.
وسابقًا، كان احتفاظ الهند بعلاقات قوية مع روسيا، بما في ذلك مشتريات الطاقة، منذ بدء الصراع الروسي الأوكراني قد حظي باهتمام عالمي، تسبب في نفاد صبر الغرب، لكن الآن، تتخذ الهند مسارًا مختلفًا، وإن كان هذا التغيير خفيًا، إلا إنه نتاج عدة عوامل، بما في ذلك رغبة مودي في تقديم نفسه كرجل دولة عالمي يتجه إلى الانتخابات العامة في عام 2024، علاوة على القلق الهندي المتزايد بشأن الطموحات الصينية، والحاجة المتزامنة للتعامل مع الحساسيات الغربية، وضرورة تحقيق التوازن بين المنافسين "الهند والصين" وهو أمر أساسي للتقاليد الاستراتيجية الهندية.
فرصة استراتيجية
ليس من المستغرب أن تهتم قوة غير غربية بهذه المصلحة في الصراع الأوكراني، حتى الآن، توسطت دول في الاتفاقات الأكثر جدوى التي أبرمت بين روسيا وأوكرانيا مثل الصفقات الملغاة الآن بشأن شحن الحبوب والمنتجات الزراعية التي تشتد الحاجة إليها عبر البحر الأسود، وفي الوقت الحالي سوف تُستقبل المبادرات المدعومة من الدول الغربية، التي هي من حلفاء أوكرانيا المقربين ومؤيديها، أو من الصين، الحليف التقليدي لروسيا، أما الهند فلديها فرصة فريدة للانخراط على وجه التحديد لأنها لم تُدِن روسيا ولا تزال تحافظ على العلاقات مع موسكو، وبعد أكثر من أسبوع بقليل من لقاء مودي وزيلينسكي، اتصل مودي ببوتين لحثه على "الحوار والدبلوماسية" لإنهاء الحرب،.\
وفي قمة مجموعة العشرين الأخيرة في إندونيسيا، ساعدت الهند أعضاء المجموع، بما في ذلك خصوم روسيا والولايات المتحدة، إلى التوصل إلى اتفاق بشأن تخفيف لغة الإعلان الرسمي الصادر في نهاية الاجتماع، حتى لا يكون موجها ضد روسيا، وأشار سوبراهمانيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي، إلى أن: "الهند لم تكن لتتمكن من التوسط والمساعدة في تخفيف الوضع إذا فعلت ما أراده الغرب أن يفعله خلال المراحل الأولى من الأزمة".
تأكيد القدرة على القيادة
وفي سبتمبر المقبل، ستستضيف الهند قمة مجموعة العشرين، والتي يمكن أن تؤكد بشكل أكبر قدرتها على القيادة من خلال اقتراح وتوجيه التبادلات الدبلوماسية المتواضعة بين روسيا وأوكرانيا وشركائهم، ومن غير المرجح أن تؤخذ المقترحات الكبيرة لإنهاء الحرب، كما قدمها عدد من البلدان، بما في ذلك البرازيل والصين وإندونيسيا، على محمل الجد في هذه المرحلة، لكن الهند يمكن أن تجلب الخصوم إلى طاولة المفاوضات معا، سعيًا وراء المزيد من الاتفاقات والتفاهمات المبدئية.
استخدام الأسلحة النووية
وبالتشاور مع الشركاء، يمكن لنيودلهي أيضًا تحديد القضايا المهمة التي قد يعالجها المسؤولون الأوكرانيون والروس لغرض بناء الثقة وتقديم الإغاثة للمدنيين المتضررين من الحرب، وقد يكون كلا الجانبين مهتم بمناقشة قضايا مثل المعاملة الإنسانية للسجناء، وتحديد وتنفيذ -بالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية- قيود على الاستهداف العسكري حول محطات الطاقة النووية، ومنع استخدام القنابل العنقودية، وإجلاء المدنيين من مناطق القتال العنيف، وترتيب وقف إطلاق نار محلي مؤقت لحماية المدنيين.
ويمكن للهند، كقوة نووية، أن تحاول أيضًا ضمان عدم استخدام الأسلحة النووية بأي شكل من الأشكال في هذا الصراع، وكانت نيودلهي من المدافعين عن عدم استخدام الأسلحة النووية، بما في ذلك الأسلحة النووية التكتيكية، ومؤمنةً بالمحرمات النووية، فيجب على الهند دعوة جميع الأطراف المعنية إلى ضمان عدم إدخال أي طرف لأسلحة نووية تكتيكية في الحرب، حتى لو كان مثل هذا الاقتراح قد لا يثير إعجاب روسيا.
ستنتهي أزمة أوكرانيا في النهاية، وفي غضون ذلك، يجب على الدول محاولة التخفيف من حدة العنف، وتمهيد الطريق لمزيد من المحادثات الاستراتيجية، وبناء الثقة من أجل وقف إطلاق النار في المستقبل واتفاق سلام نهائي، ويمكن لجهود نيودلهي أن تخفف من حدة الآثار الأكثر تدميرًا للحرب، وحتى إن لم تحدث فرقًا كبيرًا، قد يرتكب المسؤولون الهنود خطأ إذا لم يفعلوا شيئًا عندما يكون لديهم وللعالم الكثير ليكسبوه.