برزت في الفترة الأخيرة خلافات متنوعة في سياسات الدول الأوروبية فيما يرتبط باستخدام الطاقة النووية. فمن جانب هناك دول تعتمد بشكلٍ كبير على الطاقة النووية، مثل فرنسا والمملكة المتحدة والسويد وفنلندا، حيث تُؤمِن الطاقة النووية بالنسبة لفرنسا نحو 70% من احتياجاتها، وتستهدف بريطانيا الوصول إلى ما نسبته 25% من احتياجاتها من مصادر الطاقة بحلول عام 2050. وفي المقابل تبرز ألمانيا والنمسا ولوكسمبورج في الجبهة المقابلة.
تأسيسًا على ما سبق، يحاول هذا التحليل التطرق إلى دوافع الدول الرافضة للتوسع في استخدامات الطاقة النووية ودافع الدول المؤيدة.
دوافع الدول الرافضة:
تنوعت دوافع الدول الرافضة للتوسع في استخدامات الطاقة النووية على النحو التالي:
(*) الخوف من الحوادث النووية: تتركز المخاوف بشأن الطاقة النووية حول مخاطر الأمان والصحة العامة، وكذلك التخلص من النفايات النووية. ويتطلب التخلص من النفايات النووية بشكل آمن وفعال تكاليف باهظة وفترات زمنية طويلة. وعلى الرغم من أن الطاقة النووية تعتبر نظيفة بشكل عام، فإنها قد تؤدي إلى حوادث خطيرة إذا لم يتم التعامل معها بحذر، مثل حادث تشيرنوبيل في أوكرانيا عام 1986، وحادث فوكوشيما في اليابان عام 2011.
(*) الحفاظ على البيئة: يرتبط التوسع في استخدام الطاقة النووية بالتخوفات البيئية كذلك وما يتصل بآلية التخلص من النفايات النووية وتأثيرها على البيئة والمناخ في حالة حدوث أي خلل أو حادث. ويرتبط التخوف من التسربات النووية بانعكاساتها السلبية التي تؤدي إلى تلوث البيئة والأراضي والمياه، مما يؤدي إلى تأثيرات صحية سلبية على الإنسان والحيوانات والنباتات.
(*) أهمية التوجه نحو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة: تشير تحليلات إلى أن دول الاتحاد الأوروبي، تتجه إلى الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة "الرياح، والطاقة الشمسية"، وتستثمر أوروبا بشكلٍ كبير في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة؛ كما تشجع الدول الأوروبية الاستثمار في مشروعات التحول الأخضر لتحقيق التنمية المستدامة بهدف الوصول إلى الحياد الكربوني عبر توفير التمويل اللازم لتطوير المشاريع الجديدة.
وقد لاقت خطوة برلين في منتصف أبريل الماضي بإغلاق آخر 3 مفاعلات نووية عاملة في البلاد، دعمًا من ناشطي المناخ والمدافعين عن البيئة. وبهذا الإجراء، خرجت ألمانيا من الدول الأعضاء في نادي الطاقة الذرية للاستخدامات السلمية خوفًا من تكرار كارثة تشيرنوبيل في عام 1986. وقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتكشف معضلة أوروبا فيما يتعلق بتأمين مصادر الطاقة؛ إذ تراجعت حالة الإجماع الألمانية على التخلي عن الطاقة النووية، خصوصًا أن الألمان يتخوفون من مواجهة أسوأ سيناريو قد تتعرض له بلادهم، والمتمثل في إغلاق المصانع وغياب التدفئة عن منازلهم، وهو ما يجعلهم يتبنون ضرورة التوسع في توفير عرض الطاقة وليس تقليصه.
وتعمل فرنسا ومجموعة من الدول الأوروبية الداعمة لاستخدام الطاقة النووية على تبني تشريعات بإمكانها تسريع وتيرة بناء المفاعلات النووية في إطار مشروع الإحياء النووي الذي تبناه مؤخرًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد الأزمة الروسية الأوكرانية. جدير بالذكر أن ماكرون كان ملتزمًا في برنامجه الانتخابي بخفض استخدام الطاقة إلى 50% ولكن يبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية غيَّرت كل شيء.
وأعلن وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير، في 8 يونيو 2022 - خلال ندوة سنوية للاتحاد الفرنسي للكهرباء، عُقدت في باريس- أن الطاقة النووية الفرنسية خط أحمر مُطلق، وغير قابلة للتفاوض، وذلك في إشارة لرفض المطالب الألمانية بضرورة تخلي باريس عن هذه التقنية. وتتمسك باريس بإنتاج الطاقة النووية نظرًا لتضاؤل تكلفتها بالنظر لمصادر الطاقة الأخرى، وإسهامها الكبير في توفير أكثر من 200 ألف فرصة عمل متنوعة. وقد اعتمدت الجمعية الوطنية الفرنسية في مارس 2023، وفقًا لصحيفة "لوموند" الفرنسية، مشروع قانون "التسريع النووي" بهدف تسهيل بناء مفاعلات جديدة في البلاد.
مؤشرات خطيرة:
تبرز العديد من المؤشرات التي تؤكد تراجع الدول الأوروبية عن وعود تقليص استخدام الطاقة النووية، والتوجه نحو مصادر الطاقة الخضراء تدريجيًا، وذلك على النحو التالي:
(&) البرلمان السويدي يُقر التخلي عن وعود الانبعاثات الصفرية: بعد أكثر من أربعة عقود من قرار ستوكهولم بالتخلي التدريجي عن الطاقة النووية، جاء تخلي البرلمان السويدي بعد تفكير جديّ في بناء مفاعلات نووية إضافية، وهو الأمر الذي يعني ضمنًا إلغاء أهداف تحقيق طاقة متجددة خضراء بنسبة 100% بحلول عام 2045. وفي المقابل، أعلنت السويد كذلك تعديل أهداف التخلي عن الطاقة الأحفورية بنسبة 100%. ويبرز اتجاه لدى بعض الدول الأوروبية في الوقت الحالي لتصنيف الطاقة النووية والغاز على أنها خضراء. وتواجه السويد مشكلات كبيرة بسبب قضاياها الجغرافية والمناخية في مسألة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتتماشى هذه السياسات مع تصريحات لوزيرة المالية السويدية إليزابيث سفانتيسون في البرلمان أثناء التصويت على قرار التخلي عن سياسة الانبعاثات الصفرية. وتُسهم الطاقة النووية حاليًا بما يقرب من 30% من احتياجات ستوكهولم من الكهرباء.
(&) دعم فرنسي غير محدود للاستثمار في الطاقة النووية: بعد أن كان التقليل من الاعتماد على الطاقة النووية في فرنسا ضمن البرنامج الانتخابي للأحزاب والرؤساء الفرنسيين السابقين مثل فرانسوا هولاند، تبنى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بعد الأزمة الروسية الأوكرانية مشروعًا طموحًا لإعادة تشغيل المفاعلات النووية الفرنسية بكامل طاقتها لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي هذا السياق، تدعو فرنسا إلى إدراج الطاقة النووية ضمن خريطة التمويل الأخضر. وأطلقت 11 دولة هي فرنسا، وبلغاريا، وكرواتيا، وفنلندا، والتشيك، والمجر، وهولندا، وبولندا، ورومانيا، وسلوفاكيا وسلوفينيا في فبراير من العام الجاري تحالفًا للطاقة النووية في أوروبا، وذلك لضمان أمن الإمداد. وترفض ألمانيا هذه الخطوات؛ إذ يطمح التحالف الحاكم في برلين أن يكون اعتماد ألمانيا بحلول 2030 على مصادر الطاقة المتجددة.
(&) تعديل للخطط والعودة مرة أخرى للوقود النووي: كانت بلجيكا تخطط للتخلي التام عن استخدام الطاقة النووية بحلول عام 2025، ومع الحرب الروسية الأوكرانية، عدَّلت خططها بشكلٍ كامل في هذا الملف لتضمن استمرار استخدام المفاعلات النووية لتأمين احتياجاتها من الطاقة لمدة عشر سنوات إضافية. وتوصلت بروكسل أخيرًا إلى اتفاق مع الشركة الفرنسية "إنجي" المُشغلة لمفاعلاتها. من ناحيتها، أعلنت الحكومة السويدية استعداد قطاع الطاقة النووي لاستقبال استثمارات جديدة بعد تعديل التشريعات التي تحظر بناء مفاعلات نووية جديدة، وتقصرها على 10 مفاعلات فقط.
واستقبلت بريطانيا لأول مرة منذ التسعينيَّات مفاعلًا نوويًا قادمًا من فرنسا أواخر فبراير 2023، وهو من صنع شركة "فرام أتوم" الفرنسية. ومن المُتوقع ألا يبدأ المفاعل في إنتاج الكهرباء قبل عام 2026. ويرتبط المشروع باستراتيجية أمن الطاقة في المملكة المتحدة التي صدرت في فبراير 2022 بهدف تسريع تطوير الطاقة النووية في البلاد، وتطمح الحكومة البريطانية إلى تغطية نحو 25% من احتياجاتها من الطلب المتوقع على الكهرباء بحلول عام 2050.
في النهاية، أثبتت العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا لا سيَّما قطاع الطاقة هشاشة أمن الطاقة الأوروبي خصوصًا أن الأزمة الروسية الأوكرانية كادت أن تؤثر سلبًا على قلاع الصناعة في أوروبا، مما استوجب على العواصم الأوروبية ضرورة التركيز على تنويع مصادر اعتمادها على الطاقة وتنويعها. وتهدف الدول الأوروبية من وراء العودة إلى الطاقة النووية، أو محاولات تصنيفها مع الغاز الطبيعي على أنها خضراء إلى تأمين مصادر طاقة دائمة وآمنة ماديًا بما يسمح بتوفير مصادر الطاقة بشكلٍ دائم بالنسبة للاقتصاد.