تعكس زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 27 يوليو 2023، التي تعد الأولى لها منذ توليها السلطة، التنسيق بين البلدين فى الملفات المشتركة والمتشابكة بينهما، التي لها انعكاساتها المباشرة على حفظ استقرار قواعد النظام الدولي الحالية، وعلى الرغم من انضمام إيطاليا (الدولة الأولى والوحيدة من الدول السبع الصناعية) إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2019، إلا أن دعم أوكرانيا، وتعزيز دور حلف الناتو، والرغبة في تحجيم النفوذ الدولي للصين ظلت ملفات لها أولوية فى صياغة المواقف المشتركة بين الولايات المتحدة وإيطاليا.
ملفات مشتركة:
على الرغم من تحذيرات بايدن عقب إعلان فوز التحالف اليميني في إيطاليا وانتخاب جورجيا ميلوني، من أفكار ائتلافها بشأن ما يحمله من رؤى قيمية مختلفة سواء فيما يخص الهجرة إلى أوروبا أو التشدد في مجال الإجهاض، التي اعتبرها تهدد القيم الليبرالية، إلا أن ثمة ملفات مشتركة لها أولوية في علاقات البلدين، التي وجدت طريقها على طاولة المفاوضات بين بايدن وميلوني، ويمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) دعم أوكرانيا: يمثل دعم أوكرانيا توجهًا مشتركًا في العلاقات الأمريكية الإيطالية، لا سيما أنهما يرفضان الموقف الروسي في الحرب ويطالبان بسحب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، ووفقًا للمتحدث باسم البيت الأبيض، فإن بايدن تجمعه علاقة طيبة مع ميلوني، إذ شدد الجانبان على أن الزيارة تعد فرصة لإعادة تأكيد الشراكة القوية بين البلدين، بما في ذلك المساعدات التي تقدر بمليارات الدولارات التي قدمها الغرب لدعم أوكرانيا ضد روسيا.
لذلك تناولت المباحثات الثنائية تأكيد بايدن على الدور المهم الذي تؤديه إيطاليا بصفتها حليفًا عسكريًا في حلف الناتو، لا سيما في ظل الدعم الذي قدمته لأوكرانيا لمواجهة الغزو الروسي، الذي اعتبره بايدن يحدث فارقًا كبيرًا، وأشادت ميلونى من جانبها بالعلاقات القوية تاريخيًا بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا بغض النظر عن اللون السياسي للحكومات المتعاقبة، قائلة: "نحن نعرف أصدقاءنا في المحن والدول الغربية أظهرت أنها تستطيع الاعتماد على بعضها البعض، وأنا فخورة بما فعلته إيطاليا لمساعدة أوكرانيا"، واعتبرت دعم أوكرانيا يعني الدفاع عن التعايش السلمي بين الناس والدول في كل مكان بالعالم، وأن "المقاومة الأوكرانية تبعد حربًا عالمية، ولا تقربها".
(*) تعزيز دور حلف الناتو: على الرغم من أن تعزيز دور حلف الناتو كان أحد العوامل التي دفعت روسيا إلى الانخراط فى عمل عسكرى ضد أوكرانيا بعد تقديم أوكرانيا طلب للانضمام إلى الحلف اعتبرته روسيا تهديدًا لأمنها القومي، إلا أن المواقف المشتركة لكل من بايدن وميلونى فى الآونة الأخيرة عكست الرغبة المشتركة فى تعزيز مكانة الحلف ضد التهديدات المتنامية، وهو ما تجلى فى خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، في باحة جامعة فيلنيوس على هامش استضافة ليتوانيا لقمة الناتو الأخيرة في 11 و12 يوليو 2023، إذ تعهد فيه بعدم تخلي الغرب عن أوكرانيا في حربها ضد روسيا، قائلًا: "لن نتردد في دعم أوكرانيا"، مضيفًا أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يتوقع أن ينكسر حلف الناتو لكنه أخطأ في ظنه".
(*) العلاقات الاقتصادية: تمثل العلاقات التجارية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وإيطاليا مرتكزًا رئيسيًا للمناقشات المتبادلة بين الجانبين، الأمر الذي أشارت إليه رئيسة الوزراء الإيطالية ميلونى خلال الزيارة عندما صرّحت بأنها تريد التحدث عن العلاقات التجارية والاقتصادية مع الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي تثير خططه للصناعة والاستثمارات قلق الأوروبيين.
(*) العلاقة مع الصين: تشكل العلاقة مع الصين أحد الملفات الشائكة في العلاقة بين البلدين، لا سيما أن إيطاليا تعد الدولة الوحيدة ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع، التي انضمت إلى مبادرة الصين بشأن الحزام والطريق في 2019.
ويرى المعارضون أن هذه الشراكة ربما تُمكّن الصين من الوصول إلى تقنيات حساسة وبنية تحتية حيوية للغرب، لذا يعتقد استنادًا إلى تصريحات ميلوني في مايو 2023 " إن من الممكن الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع بكين" دون الحاجة إلى أن تكون روما جزءًا من المبادرة. ما يعني احتمالية ألا تجدد إيطاليا الاتفاق مع الصين، عندما ينتهي أجل العمل به في مارس 2024.
(*) رئاسة إيطاليا لمجموعة الدول الصناعية السبع: تشكل رئاسة إيطاليا لمجموعة الدول الصناعية السبع خلال عام 2024 دافعًا لتعزيز الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، لا سيما أن المجموعة كشفت في ختام قمة حلف شمال الأطلسي فى ليتوانيا عن إطار عمل دولي لأمن أوكرانيا على المدى البعيد من أجل تعزيز دفاعاتها وردع روسيا عن أي اعتداء مستقبلي، إذ أعلن الرئيس الأمريكي بأن القوى الكبرى ستساعد كييف على بناء دفاعات في البر والبحر والجو.
تحديات ماثلة
على الرغم من أن زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما صاحبها من ترحيب بايدن بها وحديثه الودي عن أصول زوجته الإيطالية، إلا أن ثمة تحديين رئيسيين يواجهان مستقبل العلاقات الأمريكية الإيطالية وهي على النحو التالي:
(&) البُعد القيمي والمصلحي: ويتعلق بتوجهات حزب "أخوة إيطاليا" وائتلافه الحاكم، وهو الحزب الذي تتزعمه ميلوني بتوجهاته اليمينية ووصل إلى الحكم في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2022 بعد فوزه بغالبية مقاعد البرلمان الإيطالي ولديه التزام بالمبادئ والقيم التي تم انتخابه على أساسها، وهي قيم تتناقض مع ما ينادي به الحزب الديمقراطي بقيادة بايدن، إذ تقوم قيم اليمين الإيطالي بالأساس على موقف سلبى إزاء المهاجرين، وحقوق الإنسان، والتشدد إزاء القومية الأوروبية التي عبر عنها أول بيان للحكومة برئاسة ميلوني بالقول إن "ايطاليا جزء كامل من أوروبا والتحالف عبر الأطلسي، سنرى المزيد من إيطاليا في أوروبا والمزيد من أوروبا في العالم". غير أن البُعد المصلحي في توجهات اليمين الإيطالي جعلته ينظر لتحالفه مع الولايات المتحدة كمركز ثقل للدولة الإيطالية لا يمكن أن يكون بديلًا للتحالف مع أوروبا، لكنه بالتأكيد يضع إيطاليا في موقع متقدم من صناعة السياسة الأوروبية.
(&) تحدي العلاقات الإيطالية الصينية: وانضمت إيطاليا لمبادرة الحزام والطريق منذ 2019 خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى روما لتكون الدولة الأولى والوحيدة في مجموعة السبع الصناعية التي توقع على تلك المبادرة. وهدفت بكين من خلال توقيع روما على المبادرة إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية والسياحية والثقافية والتكنولوجية معها وإيجاد أسواق لبضائعها، بما يسهم في زيادة وجودها في أوروبا.
أما إيطاليا فهدفت إلى الاستفادة من رأس المال الصيني من أجل تحسين البنية التحتية، وتعزيز النمو الاقتصادي. لذلك فإن ثمة اتجاه يرى أن ايطاليا هي الرابح الأكبر من العلاقة مع الصين من الناحية الاقتصادية برغم تأكيد ميلوني أنها ستواجه الطموحات الصينية في أوروبا، وأنها لن تكون حلقة ضعيفة في التحالف الغربي.
وبرغم تلك التصريحات المعلنة، إلا أن ميلوني وخلال لقائها بالرئيس الصيني شي جين بينج على هامش انعقاد قمة العشرين بمدينة بالي الإندونيسية في نوفمبر 2022، أبدت اهتمامًا بتعزيز المصالح الاقتصادية، وزيادة الاستثمارات الإيطالية في الصين، وانتقدت عقلية المواجهة بين الكُتل في التعامل مع بكين، في إشارة إلى التحالفات التي تقيمها واشنطن مع دول أخرى لمحاصرة الصين كتحالف "أوكوس"، كما دعت إلى ضرورة التعاون مع الصين في المحافل الدولية مثل مجموعة العشرين والأمم المتحدة.
مجمل القول إن ملف أوكرانيا كان له الأولوية فى مباحثات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية سواء فيما يتعلق بضرورة استمرار الدعم الغربي عسكريًا واقتصاديًا أو ما يتعلق بخطط إعادة الإعمار والموقف من عضوية أوكرانيا بحلف الناتو. الأمر الذي يعكس التضامن الغربي مع أوكرانيا بصرف النظر عن اختلاف المنطلقات الأيديولوجية للأحزاب الحاكمة، وما يعني أيضًا إصرارًا غربيًا مشتركًا على رفض الموقف الروسي من الحرب في أوكرانيا والحد من طموحات بوتين على المستوى الدولي، وسعيه لإرساء عالم متعدد الاقطاب.