الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

احتمالات تحول "مولدوفا" إلى بؤرة توتر جديدة في أوروبا

  • مشاركة :
post-title
مولدوفا

القاهرة الإخبارية - محمود جمال

ظلَّت مولدوفا لفترة كبيرة بعيدة عن قوائم المتقدمين لعضوية الاتحاد الأوروبي، ومع بدء النزاع في أوكرانيا الذي سبقه وصول رئيسة مولدوفا مايا ساندو، المعروفة بميولها نحو الغرب إلى سُدة الحكم، بدت مولدوفا تأخذ خطوات متسارعة للاندماج في المنظومة الغربية ممثلة في الاتحاد الأوروبي والتقارب مع حلف الناتو، مع الاستمرار في سياسة حيادها الدستوري. وفي الوقت الذي تحرص فيه حكومة تشيسيناو على التكامل مع أوروبا، تعمل على مراجعة عضويتها في رابطة الدول المستقلة التي أسستها روسيا وبيلا روسيا عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.

نناقش في هذا التحليل تباينات النظرة الاستراتيجية لكلٍ من الغرب وروسيا نحو جمهورية مولدوفا، وانعكاسات ذلك على حالة الحياد الدستوري التي تتبناها الجمهورية السوفيتية السابقة منذ استقلالها أوائل التسعينيَّات.

مولدوفا في الاستراتيجية الغربية:

فيما تميل مولدوفا في سياستها نحو الاتحاد الأوروبي، يدعم الأوربيون انضمامها إلى مشروع التكامل الأوروبي عبر مزيد من السياسات التي تساعد تشيسيناو على الاندماج، نظرًا للأهمية الجيوسياسية لها فضلًا عن إمكانية استخدامها لتشكيل حزام ضاغط على روسيا. ونوضح فيما يلي أبرز المؤشرات التي تبرز الاهتمام بضم مولدوفا إلى المعسكر الغربي رغم حيادها الدستوري:

(*) تعزيز العلاقات العسكرية مع مولدوفا: يعمل حلف شمال الأطلسي (الناتو) على بناء علاقات راسخة مع تشيسيناو، الأمر الذي تأكد باستقبال ميرسيا جيوانتش نائب الأمين العام لحلف الناتو، إيجور جروسو رئيس البرلمان المولدوفي، في مقر الحلف بالعاصمة البلجيكية بروكسيل في 4 يوليو 2023. وجاء هذا اللقاء لبحث التعاون الدفاعي المشترك، ودعم الحوار السياسي بين الجانبين خصوصًا مع قرب انعقاد قمة الناتو التي تستضيفها العاصمة الليتوانية فيلنيوس، والمقرر انعقادها من 11-12 يوليو بحضور نيكو بوبيسكو وزير الخارجية والاندماج الأوروبي المولدوفي.

(*) ترحيب أوروبي بدمج مولدوفا في منظومتها: تؤمن العديد من دول الاتحاد الأوروبي بالتكامل بين دول القارة في إطار الوحدة الأوروبية، وذلك لقطع الطريق أمام موسكو في استقطاب مزيدٍ من الحلفاء الأوروبيين الذين قد يمثلون ضغطًا فيما بعد على السياسة الأوروبية، كما الحال في حالة بيلا روسيا الموالية لموسكو، وفي هذا الصدد، قالت رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيرها البولندي، ماتيوس مورافتيسكي في العاصمة البولندية وارسو في الخامس من يوليو الجاري إنها تتوافق مع بولندا في مسألة انضمام دول غرب البلقان، وأوكرانيا ومولدوفا للاتحاد الأوروبي باعتبار أن ذلك بمثابة الخطوة المهمة نحو التكامل الأوروبي.

من جانبه، عبَّر جيوانتش، نائب الأمين العام لحلف الناتو على هامش لقائه مع رئيس البرلمان المولدوفي في مقر الحلف أوائل هذا الشهر على الدعم القوي لحلف الناتو لتكامل مولدوفا في أوروبا، معتبرًا ذلك بمثابة الضمانة لمستقبل مزدهر لتشيسيناو، وذلك وفق ما نشره الموقع الرسمي للحلف.

أعلام جمهورية مولدوفا، وحلف الناتو

(*) دعم اقتصادي وعسكري: اتصالًا برؤية التكامل الأوروبي مع تشيسيناو، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في بيانٍ نُشر على موقع المفوضية الإلكتروني، تقديم الاتحاد الأوروبي حزمة من الدعم لمولدوفا حتى تتمكن من مجابهة تحديات الحرب الروسية الأوكرانية، وتضمنت حزمة الدعم المُقدمة تحقيق التنمية الاقتصادية وتحسين البيئة الاقتصادية للبلاد وتنمية رأس المال البشري ودعم كفاءة قطاعات الاتصالات والطاقة بالبلاد، ما يجعل هذه الخطوة تبرز وكأنها تجهيز للبلاد لتسريع اندماجها في الاتحاد الأوروبي.

تأتي الخطوات المتسارعة لتقريب مولدوفا من الحلم الأوروبي اتصالًا بموقفها الإيجابي من الأزمة الروسية الأوكرانية؛ففي مايو 2023، أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي أن مولدوفا تلقت دعمًا عسكريًا من أوروبا يُقدَّر بـ40 مليون يورو لمدة 36 شهرًا، يشتمل على معدات وإمدادات وخدمات، وقد جاءت هذه الخطوة لتعزيز الأمن القومي والاستقرار للبلاد.

(*) التزام أوروبي بدعم مولدوفا:لتأكيد دعم الزعماء الأوروبيين لوحدة الأراضي المولدوفية، اجتمع نحو 50 من قادة أوروبا في مولدوفا بقرية تقع بالقرب من إقليم ترانسنيستريا الانفصالي، الذي ينتشر به عدد من جنود الجيش الروسي، والحدود الأوكرانية المولدوفية في مطلع يونيو 2023. وعلى الرغم من رمزية الإجراء إلا أنه يُبرز خطط أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا في استمرار سياسة الضغط على روسيا لإجبارها على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية من ناحية، وإبراز الوحدة الأوروبية أمام موسكو من ناحيةٍ أخرى خاصة أن قمة المجموعة السياسية الأوروبية التي انعقدت في 1 يونيو 2023 بمولدوفا عبَّرت بشكلٍ أساسي عن التكامل السياسي والأمني بين الدول الأوروبية بعكس الاتحاد الأوروبي الذي يُعبر عن مصالح اقتصادية بالأساس. وقد انطلقت رسميًا بعثة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بمولدوفا بعد قمة المجموعة السياسية الأوروبية.

موقف روسيا من مولدوفا

"مولدوفا هي التالية"، هكذا أجاب وزير خارجية روسيا، سيرجي لافروف في مقابلة له مع قناة "روسيا 24" ووكالة سبوتنيك أوائل فبراير 2023 عندما سُئل عن أكثر الدول القريبة من روسيا، التي قد تتجه لخوض المسار الذي سبقت إليه كييف. يُعبر ذلك عن تطور العلاقات الروسية المولدوفية في ظل قيادة رئيسة مولدوفا المؤيدة للغرب، مايا ساندو، ونبرز فيما يلي مؤشرات التوتر التي ضربت العلاقات بين الجانبين منذ وصول ساندو للسلطة، وفوز حزب العمل والتضامن بالانتخابات التشريعية:

(*) رفض سياسات ساندو: منذ انتخاب رئيسة مولدوفا الحالية، مايا ساندو في 2020، تتابع موسكو سياسات مولدوفا بحذرٍ شديد، خصوصًا أن سياسات "ساندو" تتسم بالتقارب مع الاتحاد الأوروبي على حساب العلاقات التاريخية لبلادها مع موسكو التي ترى في مولدوفا مجالًا حيويًا لنفوذها التاريخي، وذلك على عكس الرئيس السابق، إيجور دودون الموالي لروسيا. وقد تأكد نفوذ ساندو التي تحمل جنسية رومانيا، وهي إحدى دول الاتحاد الأوروبي بعد تأكيد سكان مولدوفا دعمهم لسياستها عندما اختاروا حزبها، العمل والتضامن في الانتخابات البرلمانية في يونيو 2021.

(*) اتهامات لموسكو بمحاولة إسقاط الحكومة المولدوفية المنتخبة: أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي في كلمة له أمام قمة الاتحاد الأوروبي في 9 فبراير الماضي أن أجهزة بلاده كشفت عن خطة المخابرات الروسية لتدمير مولدوفا. وفي السياق ذاته، اتهمت رئيسة مولدوفا، ساندو، موسكو باستخدام مخربين لإسقاط حكومتها المؤيدة للاتحاد الأوروبي، وقد نفى في وقتها المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف الاتهامات الغربية.

(*) توظيف مولدوفا لخنق موسكو: تتهم روسيا، الغرب بشكل مستمر باستخدام دول الجوار ضدها، وبعد انتخاب ساندو تعززت شكوك موسكو أن مولدوفا قد تكون الدولة التي ستتبع أوكرانيا في الإجراءات المناوئة لها. وتشير روسيا إلى توسع العلاقات بين مولدوفا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كدليل على هذه الاتهامات. اتصالًا بذلك، يعتقد الساسة الروس أن الغرب يعمل على شغلهم بجوارهم الجغرافي، والدفع بالأمور إلى أن تتحول مولدوفا إلى مصدر إزعاج آخر لروسيا بعد أوكرانيا رغم أن الدستور المولدوفي نفسه يؤكد حيادها.

تمثال نصفي لفلاديمير لينين في ترانسنيستريا في 30 يوليو 2022

(*) استخدام ورقة الأقاليم الانفصالية: تتهم الحكومة المولدوفية، موسكو بزعزعة الاستقرار في منطقة جاجوزيا التي تتمتع بالحكم الذاتي، وتصوت بشكلٍ مستمر للأحزاب الموالية لروسيا، وكذلك إقليم ترانسنيستريا الذي أعلن استقلاله من جانب واحد بعد حرب قصيرة في عام 1992، وتسيطر عليه حكومة موالية لموسكو. وتعتبر الأقاليم الانفصالية من بين أكبر التحديات التي تواجه الحكومة المولدوفية فيما يرتبط بالاستقرار السياسي والأمني في البلاد خاصة أن الانفصاليين في إقليم ترانسنيستريا كانوا يعولون على الدعم الروسي على غرار ما حدث مع الانفصاليين الأوكرانيين، وبالتالي قد تستخدم الدول المناوئة لسياسة مولدوفا هذه الأوراق بغرض ممارسة الضغوط عليها.

جدير بالذكر أن إقليم ترانسنيستريا لا يزال يحافظ على التقاليد السوفيتية؛ إذ لا تزال تماثيل زعيم الثورة الشيوعية، فلاديمير لينين تنتشر في ميادينه وكأنه لا يزال يعيش في الحقبة السوفيتية. ومن المُرجح أن يُشكل ذلك ضغطًا إضافيًا على سياسة حكومة مولدوفا عند اتخاذها أي إجراءات تجاه موسكو كما حدث في حالة إقليم دونباس شرقي أوكرانيا.

إلى أين تتجه مولدوفا؟

تحمل مايا ساندو، رئيسة مولدوفا برنامجًا سياسيًا طموحًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030 بغض النظر عن حالة الحياد التي يقرَّها دستور البلاد؛ حيث تتمسك البلاد في الوقت الحالي بالاندماج مع أوروبا بما لا يخل بحيادها العسكري. وقد عبَّرت ساندو عن معارضة أغلب الشعب المولدوفي لفكرة الانضمام لحلف الناتو، وهو ما يعني عدم تخلي البلاد عن حيادها على الأقل في الوقت الحالي. جدير بالذكر أن أي محاولة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) تتطلب موافقة جمهور مولدوفا على استفتاء يلغي حالة الحياد التي ترفعها البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيَّات.

ويقوم مشروع "ساندو" في الوقت الحالي على العمل الجاد لتحقيق الاندماج مع أوروبا، وبالتالي تعكف حكومتها على إنجاز برنامج إصلاح اقتصادي شامل يضمن تحقيق محاربة للفساد بشكلٍ فعّال. وتتخذ مولدوفا من مسألة تحسين مستويات المعيشة وتحقيق النمو الاقتصادي سبيلًا لتسهيل عودة إقليم ترانسنيستريا الانفصالي إلى سيادتها، والبالغ عدد سكانه نحو 500 ألف نسمة. ويوجد في هذا الإقليم قوات روسية.

ويأتي حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي متصلًا بشكلٍ مباشر بالأزمة الروسية الأوكرانية؛ إذ تتخوف تشيسيناو من مصير مماثل لما انتهى به الوضع في أوكرانيا رغم التطمينات الأوروبية. وقد اكتسبت الدولة الصغيرة البالغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة صفة دولة مرشحة للانضمام إلى التكتل الأوروبي في عام 2022.

ولتأكيد تقاربها من سياسات التكامل الأوروبي، نمت سياسة التباعد عن رابطة الدول المستقلة لدى مولدوفا؛ إذ قال رئيس جمهورية مولدوفا السابق، إيجور دودون في حوارٍ له مع قناة "جي أر تي" المحلية في 2 يوليو 2023 أن الوزارات المولدوفية تعمل في الوقت الحالي على مراجعة جميع الاتفاقات مع رابطة الدول المستقلة بالإضافة إلى قيام إيجور جروسو رئيس البرلمان، بالتنسيق مع مجلس الوزراء لإعداد مشروع قانون بشأن انسحاب مولدوفا من الجمعية البرلمانية الدولية لرابطة الدول المستقلة، وقد اعتبر "دودون" أن خطوات الانسحاب من رابطة الدول المستقلة ستكون بمثابة الخطأ الاستراتيجي الذي ستعاني منه مولدوفا في المستقبل. وكانت قد أشارت الرئيسة المولدوفية في وقتٍ سابق إلى أن خطوة الانسحاب من الرابطة سابقة لأوانها، معترفة في الوقت نفسه أن مولدوفا استفادت من اتفاقياتها مع دول الرابطة.

ختامًا، على الرغم من سعي مولدوفا نحو الاندماج الكامل مع المنظومة الغربية، إلا أن ذلك لن يدفعها على الأقل في الوقت الحالي عن التخلي عن حيادها باعتباره ضامنًا لحالة السلام التي تعيشها. وفي هذا السياق، ترى مولدوفا أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فرصة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتعزيز أمن البلاد على المدى الطويل.