الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

قراءة في نتائج الانتخابات التركية

  • مشاركة :
post-title
الانتخابات العامة في تركيا 2023

القاهرة الإخبارية - محمود جمال

تُمثل نتائج الانتخابات العامة في تركيا التي جرت في 14 مايو 2023 نقطة تحول للسياسة الداخلية التركية سواءً على المستوى الداخلي أو الخارجي؛ إذ أظهر الأتراك من خلال تصويتهم العقابي ضد الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية حالة عدم الرضا عن السياسات المُتبعة خلال الفترة السابقة مثل اتجاهات السياسة الخارجية، الممارسات السياسية، المعالجات الاقتصادية، وتعديل الدستور لتغيير نظام الحكم ليصبح رئاسيًا. وبرز من خلال تحليل خريطة التصويت للمناطق التركية اعتمادًا على النتائج التي أعلنها أحمد ينر، رئيس الهيئة العليا للانتخابات التركية تنافسية عالية بين الأحزاب، والتحالفات الانتخابية المختلفة سواءً للفوز برئاسة الجمهورية من الجولة الأولى، أو الحصول على أغلبية البرلمان.

نحلل في هذا التقرير نتائج الانتخابات المزدوجة التي شهدتها تركيا، وتداعياتها المحتملة على المشهد السياسي.

مؤشرات كاشفة:

أبرزت النتائج النهائية للانتخابات المزدوجة في تركيا مجموعة من المؤشرات والدلالات؛ أبرزها:

(*) ارتفاع نسب المشاركة السياسية: أبرز بيان اللجنة العليا للانتخابات أن نسب المشاركة في الانتخابات قد بلغت 88.2% من إجمالي الأشخاص الذين يحق لهم التصويت، فيما اعتبر أردوغان أنها الأعلى في تاريخ تركيا.. واعتبر محللون أن ارتفاع نسب المشاركة في هذه الانتخابات يُعبر عن حالة الزخم الكبيرة التي استطاعت الحملات الانتخابية المختلفة تعميقها.

(*) الاتجاه التصويتي للشباب: تشير التحليلات إلى أن الشباب في تركيا لا يميلون نحو الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية بشكلٍ كبير، ويمثلون كتلة تصويتية كبيرة تتنافس عليها الأحزاب والقوى السياسية المختلفة. وبرز تأثير حوالي 4 ملايين ناخب ممنَّ يُطلق عليهم الجيل Z والذين يصوتون لأول مرة في هذه الانتخابات، لذلك كان لهم دور مهم في اتجاه هذه الانتخابات نحو جولة الإعادة، ويتأكد ذلك بمحاولات الأحزاب المختلفة لشراء ولائهم ودعمهم.

(*) أهمية نتائج البرلمان: شهدت انتخابات 2023 هيمنة لنمط التحالفات الانتخابية؛ إذ يتعين على الحزب تجاوز العتبة الانتخابية التي تُقدر بـ 7% من أصوات الناخبين حتى يستطيع ترجمتها إلى مقاعد في البرلمان. وعلى الرغم من تحول النظام السياسي التركي ليصبح رئاسيًا، إلا أن البرلمان لا زال مهمًا لأن له بعض الاختصاصات الهامة مثل تمرير التشريعات، ومحاسبة رئيس الجمهورية، وإعلان حالة الحرب. ودخلت المعارضة هذه الانتخابات وهي عازمة على عزل أردوغان، وتعديل الدستور للعودة إلى النظام البرلماني الذي يتطلب حصولها على 400 مقعد لتمرير التعديل الدستوري أو 360 مقعدًا لإجراء استفتاء. وفق النتائج الرسمية، بدا جليًا أن البرلمان التركي سيشهد نوعًا من التوازن، وهو ما يعني عدم قدرة أيٍ من الأطراف تمرير تشريعاتها دون توافق بما في ذلك تجميد الوضع السياسي الذي كانت تطمح المعارضة في تغييره بتعديل الدستور والتحول للنظام البرلماني. تجدر الإشارة أن تحالف الجمهور المتكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وأحزاب أخرى فاز بنسبة 49.٤٦% من أصل 600 مقعد فيما تمكن تحالف الأمة الفوز بنسبة 35.02%، وتجاوز تحالف العمل والحرية الذي يضم حزب الشعوب الديمقراطي العنبة الانتخابية وحصل على ما نسبته 10.53% من الأصوات، وذلك وفق ما أعلنته وكالة أنباء الأناضول.

جولة إعادة حاسمة بين أردوغان وكليتشدار في سباق الرئاسة

(*) التوجهات الأيديولوجية: برز الدين كعامل مهم في التوجهات التصويتية للناخب التركي؛ إذ يحظى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان بدعم قوي من الناخبين المحافظين. وفي هذا السياق، يُعد الانتماء الأيديولوجي عاملًا حاكمًا في التوجهات التصويتية للناخب التركي الذي يتأثر بالقيم والمبادئ التي يدافع عنها الحزب المرشح. وأبرزت أماكن تصويت مرشحي الانتخابات الرئاسية، وزعيمي أكبر تحالفين انتخابيين في تركيا في ختام حملاتهم الانتخابية سطوة التوجه الأيديولوجي لديهم؛ فبينما كان يُدلي أوغلو بصوته في عاصمة تركيا الحداثية، أنقرة، ويزور ضريح الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك ويضع القرنفل عليه، حرص أردوغان على التصويت في إسطنبول بما لها من ارتباط بإرث الدولة العثمانية إضافة إلى رمزية صلاته بمسجد أيا صوفيا التاريخي.

(*) متابعة دولية واسعة: تشهد انتخابات تركيا 2023 متابعة دولية واسعة خصوصًا أن أنقرة تعتبر العمود الفقري بالنسبة لأوروبا في منطقة البحرين الأسود والمتوسط، وثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو، وعضو في مجموعة العشرين التي تُمثل أكبر الاقتصادات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يميل أردوغان وحزب العدالة والتنمية نحو منطقة أوراسيا في علاقاته الخارجية، وهو ما يتأكد بالتطور الذي شهدته العلاقات التركية الروسية في آخر عشر سنوات، وكذا تطور علاقة أنقرة ببكين ومجموعة دول آسيا الوسطى والقوقاز. على العكس من ذلك، تميل المعارضة إلى المعسكر الغربي خاصة أنها تعتبر تركيا جزءًا لا يتجزأ من السياسة الأوروبية، وهو ما قد ينعكس على تغير مواقفها تجاه الصراع في أوكرانيا لتكون أكثر وضوحًا ناحية الغرب وواشنطن.

خريطة التصويت:

بينما يتركز نفوذ حزب الشعب الجمهوري في تركيا بشكل رئيسي في ولايات غرب البلاد، وهي الولايات التي تشمل إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة ودنيزلي، وتُمثل كتلتها التصويتية ما يقرب من 45% من الكتلة التصويتية بالانتخابات التركية، والتي تبلغ حوالي 64 مليون ناخب، يكتسب حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية المحافظة شعبية واسعة في المناطق الريفية والضواحي والمدن الصناعية. نبرز فيما يلي الخريطة التصويتية في الانتخابات التركية استنادًا إلى النتائج التي أعلنت عنها اللجنة العليا للانتخابات:

(*) الكتلة التصويتية لحزب العدالة والتنمية: يتمتع حزب العدالة والتنمية بشعبية كبيرة في أوساط الشرائح الريفية والعمالية بتركيا كونه يُمثل التوجه الإسلامي المحافظ لذا تصوت له شريحة كبيرة من الأتراك الذين يشعرون بالانزعاج من بعض توجهات أحزاب المعارضة العلمانية. ويحظى الحزب بدعم واسع في منطقة وسط الأناضول، والتي تُشكل 13 ولاية.

ورغم اعتماد المعارضة الكبير على ولايات كبرى مثل إسطنبول باعتبارها أكبر ولاية تركية؛ حيث تضم 16 مليون ناخب تقريبًا، وأنقرة التي تضم 6 ملايين ناخب إلا أن ذلك لا ينفي أن حزب العدالة والتنمية له كتلة تصويتية كبيرة هناك، فرغم خسارته لمقعد عمدة إسطنبول وأنقرة لصالح مرشحي حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، ومنصور يافاش أوغلو في الانتخابات المحلية 2019 إلا أنه لا أحد يستطيع أن يُنكر أن حزب العدالة والتنمية لا زال يحتفظ بشعبية في هذه المناطق استنادًا إلى الشخصية الكاريزمية لأردوغان الذي حصل على 46.7% من أصوات ولاية إسطنبول وفق النتائج النهائية للانتخابات، و46% من الأصوات في ولاية أنقرة، فيما حصل حزبه في الانتخابات نفسها على 36% في إسطنبول، و32.5% في أنقرة، وهو الأمر الذي يعني أن الحزب رغم ما يواجهه من صعوبات إلا أنه لا زال يحتفظ بكتلة تصويتية صلبة في أكبر الولايات الداعمة لحزب الشعب الجمهوري.

(*) الاتجاه التصويتي لمناطق الأكراد: يُمثل الأكراد حوالي 20% من سكان تركيا، وبالتالي يُعدون أكبر أقلية في البلاد. ويتمتع حزب الشعوب الديمقراطية (HDP) بدعم واسع في أوساط الأقلية الكردية، ويحظى بدعمٍ كبير من المناطق الجنوبية الشرقية والتي تأثرت بشكلٍ كبير بالصراع الدائر مع حزب العمال الكردستاني. وتختلف التوجهات الانتخابية للأكراد حسب المناطق التي يعيشون فيها سواءً الحضر أو الريف وكذلك تجاربهم الشخصية والاجتماعية والاقتصادية. وقد أعطت أغلب مناطق الأكراد أصواتها لكمال أوغلو على مستوى الانتخابات الرئاسية. والجدول التالي يبرز الاتجاه التصويتي لبعض مناطق الأكراد في الانتخابات التركية البرلمانية 2023، والذي يبرز وجود كتلة صلبة في المناطق الكردية تدعم حزب العدالة والتنمية فيما تتجه الكتلة الداعمة لحزب الشعوب الديمقراطي إلى إبراز تأييد كاسح لمرشح تحالف الأمة كمال أوغلو، وهو ما يعني امتعاضهم الشديد من أردوغان.

تصويت بعض مناطق الأكراد في الانتخابات العامة 2023

(*) الكتلة التصويتية لتحالف المعارضة: يتركز نفوذ حزب الشعب الجمهوري في تركيا بشكل رئيسي في ولايات غرب البلاد، وهي الولايات التي تشمل إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة ودنيزلي. وتتسم هذه المناطق بالتحضر والوعي السياسي والتوجه الليبرالي والعلماني، ولذلك يحظى فيها حزب الشعب الجمهوري بدعم واسع، في حين يحظى حزب العدالة والتنمية بدعم محدود في هذه الولايات. وتتميز هذه الولايات بالكثافة السكانية والتعليم والتحضر والنمو الاقتصادي، وتعتبر مراكز رئيسية للصناعة والتجارة والخدمات في تركيا.

وقد تراجع بشكلٍ طفيف تحالف الأمة في ولايات إسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية 2023، وذلك وفق المؤشرات الأولية للانتخابات التركية. ويبدو من الخريطة أدناه أن مرشح تحالف الأمة كمال أوغلو مرشح المعارضة قد ضمن دعم منطقة الأطراف والهامش في تركيا، وهي التي يُشار لها باللون الأحمر على الخريطة.

في النهاية، وفقًا للنتائج النهائية التي أعلنت عنها اللجنة العليا للانتخابات في تركيا، سيتجه كل من كليتشدار أوغلو، وأردوغان إلى جولة إعادة. وبرزت تساؤلات عريضة تتحدث عن المشهد السياسي التركي في مرحلة ما بعد أردوغان؛ ليس فقط لخسارته رهان الحسم من الجولة الأولى، ودخوله في منافسة شرسة مع المعارضة المتوحدة، ولكن لاعتبار يتعلق بتصريحه أواخر ديسمبر 2022 في خطابٍ له في مدينة سامسون بشمال تركيا عن سعيه لطلب دعم الأمة كمرشح رئاسي لآخر مرة. ومن المؤكد أن غيابه سيترك فراغًا كبيرًا في حزب العدالة والتنمية خاصة أن الحزب في العشر سنوات الأخيرة فقد المؤسسية لصالح القيادة الكاريزمية لأردوغان دون أن ينجح في تقديم بدائل سياسيين له، وهو ما يُنذر بتراجع أدائه في أي انتخابات مُقبلة.