عزف الموسيقار والملحن اللبناني عاصي الرحباني بموسيقاه على أوتار القلوب، ليسجل نفسه كواحد من رواد العمل الموسيقى في لبنان، وأسهم في وصول موسيقى بلاده إلى أرجاء الوطن العربي محققًا شهرة عالمية، فشكل مع شقيقه منصور الرحباني وزوجته المطربة فيروز، ثلاثيًا ألهم أجيالًا كثيرة وشكلوا حالة خاصة كسفراء للفن اللبناني.
قبل شهر احتفل لبنان والوطن العربي بمرور 100 عام على مولد عاصي الرحباني، الذي يوافق 4 مايو 1923، وبعد مضي 63 عامًا يرحل عن الحياة لتحل اليوم الأربعاء ذكرى وفاته "21 يونيو 1986، ما بين الحياة والموت سجل حافل من الإنجازات ليكون مؤسسًا لموسيقى جديدة، وصاحب مدرسة حقيقية ورائدًا من رواد الموسيقى اللبنانية، بعد أن أحدث ثورة في عالم الفن بالوطن العربي.
الفن المصري أول ما التقطته أُذن عاصي الرحباني، إذ تشبع والده حنا إلياس بحب مصر، الذي ولد في طنطا (إحدى مراكز محافظة الغربية)، بعد أن هاجر والديه إليها إثر أحداث 1860 المأساوية في جبل لبنان، والفتنة الكبرى بين سكانه، وعاش والده فيها وتربى على فنها، ورغم عودتهم إلى بيروت، إلا أن الفن المصري بقى في ذاكرته ونقله لأولاده وكانت أسطوانات الغناء تُسمع في البيت لكبار النجوم المصريين، لينشأ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، على الطرب المصري، وأسهم في تكوين شخصياتهما الموسيقية.
بدأ عاصي الرحباني مسيرته الموسيقية في سن مبكرة، إذ تعلم التأليف الموسيقي على يد برتران روبيار، كما تعلم العزف على يد الأب بولس الأشقر مع شقيقه منصور الرحباني، وكان يمثل مدرسة حقيقية لهما فعلمهما العزف على البيانو، كما كان له الدور الأكبر في تعليمهما الموسيقى والمقامات الشرقية، وأسهمت جدتهما في حفظ القصص والأشعار من الموروث اللبناني الشعبي.
كانت الإذاعة اللبنانية مفتاحًا لتفجير موهبة الموسيقار عاصي الرحباني، إذ بدأ مسيرته من خلالها كملحن وعازف ومن قبلها عمله في وظيفة بالبلدية نهارًا، لكن حب الموسيقى لم يتركه فكان يعمل كعازف ليلًا، إلا أن التحاقه بالإذاعة كان سببًا في شهرته وذاع صيته فأصبح مُلحنًا رئيسيًا فيها وأسهمت أيضًا في تعرفه على زوجته الفنانة فيروز، التي كانت تعمل في كورال الإذاعة وقتها عام 1950.
كوّن عاصي مع شقيقه منصور فرقة باسم الأخوين الرحباني وانضمت الفنانة فيروز لهما لتكون الضلع الثالث بهذه الفرقة، وتوّجت قصة حب الثنائي بعد لقاءهما بنحو 5 سنوات وتحديدًا عام 1955، وأنجبا زياد وريما الرحباني.
حقق عاصي الرحباني وشقيقه الذي عمل معه أيضًا في الإذاعة مع فيروز، طفرة في الألحان وإدخال موسيقى وأغانٍ جديدة، التي انقسم عليها الجمهور ما بين مؤيد ومعارض للون الجديد من الأغاني، التي ترجمت المشاعر الحقيقية على شكل أغانٍ، وهذه المشاعر لم تكن مجرد أغانٍ فحسب، بل كانت قصة حب حقيقية تكتب نفسها مع الألحان والأشعار بين عاصي وفيروز، فقدم الثنائي الكثير من الأغاني والأعمال سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما.
ويتميز عاصي الرحباني بأسلوبه الموسيقي المتنوع، إذ يجمع بين الإيقاعات الشرقية والغربية، ويستخدم مجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية المختلفة لإنتاج موسيقى فريدة من نوعها، وكان يؤمن بأن الآلات الموسيقية تتمتّع بإمكانات أدائية لا نهائية تمامًا، مثل الحرف والكلمة فلم تقتصر النقلة النوعية التي أحدثها في مجال الصوت الموسيقي على إدخال عناصر جديدة إلى اللحن والتوزيع وحسب، بل شملت أيضًا مراجعة وتطوير تقنيات الأداء، وبفضل تعدد مواهبه فقد أسهم في تطور الموسيقى العربية ونشرها في جميع أنحاء العالم.
في البداية أخرج عاصي الرحباني موهبته وخواطره مكتوبة على الورق ودونها في مجلة أصدرها في الثلاثينيات، التي سميت "الحرشاية"، مرتكزًا على التراث الشعبي، الذي كان شغوفًا به، نظرًا لتأثره بكثير من العوامل منها جدته "غيتا بعقلاني"، التي كانت تقص عليه قصص التراث والأساطير والحكايات الشعبية، وكان يرى أن سعادة الإنسان تُكمن في تقديم مولود جديد، الألحان.
"كان ديكتاتورًا في الفن، فهو ديكتاتور على نفسه قبل أن يكون ديكتاتورًا على غيره"، بهذه العبارة تحدثت فيروز عن موهبة عاصي الرحباني وحبه للموسيقى وقدرته على تقديم موسيقى جديدة، لتضيف: "تمتاز ديكتاتورية عاصي الفنية بنعمة الشك، الذي يًسهم كثيرًا في عملية خلق الجمال الفني، من هنا نقول إن عاصي يحب "الصعب" الذي يخلق الجديد والبساطة، راحته في الفن عظيمة لأن عذابه عظيم، هناك أشخاص يقتربون من النهر، لكن عاصي أقرب إلى النبع".
وكما أحدث ثورة في عالم الغناء بالإذاعة، استطاع عاصي الرحباني أن يمرّر قصصًا وألحانًا في الأعمال والعروض المسرحية بعيدًا عما هو سائد وكانت تمثل شيئًا جديدًا لأول مرة، لكنها أصبحت أعماله فيما بعد هي النموذج الذي يُحتذى به، كما ناقش موضوعات ثورية وقدم عددًا من المسرحيات مثل مسرحية الحاكمة، أوبرت مسرحي حمل اسم "موسم العز"، مسرحية البعلبكية، بياع الخواتم، دواليب الهوا، وغيرها الكثير، ونال بعض الأوسمة عن مسرحياته مثل وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1968، بعد تقديمه مسرحية الشخص، وجائزة الشاعر سعيد عقل، عام 1966 عن مسرحية أيام فخر الدين.
كما قدم مسلسلات تلفزيونية مصورة، مثل مسلسل "قسمة ونصيب" بخلاف عدد من البرامج والسهرات والأفلام، إذ قدم مع المخرج يوسف شاهين "بياع الخواتم"، مأخوذًا من المسرحية التي تحمل الاسم نفسه مع تغير بعض الفقرات والتوزيع الموسيقي.
كان لعاصي الرحباني إسهامات كبيرة في الموسيقى العربية والحفلات الغنائية بالمهرجانات الفنية، فكانت مشاركة الأخوين رحباني وفيروز بمثابة انطلاقة الليالي اللبنانية في مهرجان بعلبك بالخمسينيات، تحت عنوان الفن الشعبي اللبناني التي أبرزت العادات والتقاليد لتتوالى بعدها الكثير من المشاركات، وحصل على وسام الاستحقاق اللبناني المُذهّب بعد مشاركته في مهرجانات بعلبك 1957.
وعلى الرغم من رحيل عاصي الرحباني، إلا إن أعماله الخالدة وما قدمه على مدار ما يقرب من 6 عقود كانت كفيلة بتسطير اسم لن يمحوه الزمن.