تعلق قلب الصبي الصغير محمود ياسين بالتمثيل، بعد أن رأت عينيه لافتة نحاسية مدون عليها "نادي المسرح" في مسقط رأسه "بورسعيد"، ورغم آماله في ذلك الوقت لكنه لم يكن يدرك أنه سيصبح يومًا ما فتى الشاشة الأول وأحد رموز التمثيل في مصر والوطن العربي، وتفتخر به مدينته الساحلية، حتى تطلق اسمه على أحد أكبر شوارعها، رفقة تكريمات بمعارض ولقاءات فنية وثقافية أخرى.
محمود ياسين -الذي ولد في مثل هذا اليوم- تساءل وهو في المرحلة الإعدادية عمّا تعنيه هذه اللافتة "نادي المسرح" وماذا يحدث داخل هذا النادي الواقع في أحد المناطق الراقية بالمدينة، حتى علم أنه مكان يضم أعضاءً من أبناء المدينة المتعلمين في الثلاثينيات والأربعينيات من عمرهم يعشقون المسرح، لتبادل الحوارات والنقاشات حول المسرح ورموزه، لتسمع آذانه أسماءً، مثل الأديب الروسي أنطون بافلوفيتش تشيخوف، أفضل من كتب القصص القصيرة، وأهم من كتبوا الدراما المسرحية.
كما قرأ وقتها وهو ما زال في مرحلة المراهقة عن أدباء مصريين، منهم نعمان عاشور ويوسف إدريس، وتعرف على إنتاجهم الأدبي، ليزداد عشقه للأدب والمسرح، ولا يتردد في أن ينضم مع أصدقاء له بمدرسته الإعدادية ليقدموا روايات ضمن النشاط الفني المدرسي.
اكتمل رباط الحب بين محمود ياسين والمسرح، إذ إن عينيه كانتا تلاحظان كل ما له علاقه بأبو الفنون، فتارة يشاهد نادي مسرح رمسيس الذي تم إطلاقه في بورسعيد على غرار مسرح رمسيس بالقاهرة الذي أسسه يوسف وهبي، وتارة أخرى يتتبع الفرقة الإقيليمة، خصوصًا أن أحد أعضائها شقيقه الأكبر، ضمن 8 أشقاء أخرين كل له اهتمامه.
طموح نجم "أفواه وأرانب" في مرحلة الإعدادية تمثّل في أن يكمل مشواره نحو المسرح، خصوصًا أنه كان يعرض مع أصدقائه بعض المسرحيات في بورسعيد بمناطق مختلفة، وكان يحلم بالوقوف على خشبة المسرح القومي حتى لو ليقول جملة واحدة.
رغبة الفتى الشاب جاءت وسط ترحيب من عائلته، لكن والده كانت عيناه تركزان على أن يستكمل تعليمه الأكاديمي، لذا لجأ الابن إلى حيلة ساعدته كثيرًا، تمثلت في أن ينتقل إلى الدراسة بكلية الحقوق جامعة عين شمس، لكي يذهب إلى المسرح القومي بمنطقة العتبة الشهيرة بوسط القاهرة، غزير الإنتاج الفني وتشهد خشبته عرض 10 أعمال لمدة 10 أيام.
ومن مصروف يومي بلغ 10 جنيهات – مبلغ كبير وقتها- استطاع فتى الشاشة الأولى أن يذهب إلى عروض المسرح القومي ويشاهدها جميعها، وأيضًا إلى دار الأوبرا المصرية ويتابع عروض عالمية لم يكن يفهم بعضها، لكن جذبه هذا العالم السحري بكل تفاصيله، ويذهب أيضًا إلى دور السينما لرؤية أحدث الإنتاجات السينمائية.
كل شيء يسير في طريق أنه لا بد لهذا الفتى من أن يحترف التمثيل، لذا ترك مهنة المحاماة عقب تخرجه بفترة قصيرة، ومزّق خطاب تعيينه بوظيفة ثابتة في بورسعيد، ووجّه بوصلته نحو المسرح القومي، غايته الأولى والأخيرة وتقدم إلى الاختبارات وبفضل موهبته نجح فيها، ليقف على خشبته فرحًا بخطوته الأولى أمام الجمهور وقدّم عروض منها "الزير سالم" و"ليلى والمجنون".
السينما
موهبة محمود ياسين ووسامته، جعلت طريقة إلى السينما مفتوحًا، ليختاره المخرج حسين كمال في فيلم "شيء من الخوف" عام 1969 ويُصرّ عليه في تجربته التالية "نحن لا نزرع الشوك" بدور أكبر، ثم تظهر صورته على الأفيش في فيلم للمخرج نفسه بعنوان "أنف وثلاث عيون" عام 1972، وبدأ الجمهور والنقاد في التعرف على وجه جديد في السينما المصرية، سيصبح لاحقًا فتى الشاشة الأول وأبرز نجومها.
وعبر أفلام منها "الشيطان امرأة"، "أغنية على الممر"، "امرأة سيئة السمعة"، "الرصاصة لا تزال في جيبي"، و"مولد يا دنيا"، سطعت نجومية محمود ياسين، وأصبح نجم الشباك البارز ومضمون النجاح، وبلغ رصيده السينمائي وقتها نحو 50 عملًا، لكن حب المسرح بقي في قلبه ليعود عام 1978 بعرض "عودة الغائب" باللغة العربية الفصحى على المسرح القومي، الأمر الذي وصفه في حوار تليفزيوني قديم بأنه ممتع فنيًا وتجربة يعتز بها، كما قال عن التفاعل مع الجمهور المباشر: "هذه علاقة وجدانية تسمح لي بتلقي الجزاء الفوري، وهي متعة ثانية تختلف عن النجاح السينمائي".
لم يكن الفنان الراحل مؤمنًا بـ"القولبة الدارجة" وتصنيف ممثل بأنه مسرحي وآخر في قائمة الممثلين السينمائيين، إذ اعتبرها قوالب غير صحيحة على الإطلاق، وأن مسرحيته "عودة الغائب" شارك فيها بسبب اشتياقه إلى المسرح من ناحية، ولإثبات وجهة نظره من ناحية أخرى.
صوت مميز
تميّز محمود ياسين بصوته وطريقة إلقائه، خصوصًا أنه كان مُحبًا ومتذوقًا للشعر، وبفضل هذه الموهبة اختاره المخرج مصطفى العقاد للأداء الصوتي لفيلمه الأشهر "الرسالة" دون أن يظهر على الشاشة، ليؤدي التعليقات وينطق بالأحاديث الشريفة ويصف الأحداث أيضًا.
هذه الموهبة المميزة في طريقة الإلقاء نراها أيضًا في أغنية "أنشودة مصر" للمطربة وردة، كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، ووجد الفنان الراحل في هذه المناسبات وغيرها تعويضًا بسيطًا عن حلمه الذي لم يحقق في انطلاق المسرح الشعري.