الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

نجيب محفوظ.. إبداع أدبي عابر للزمن وتناول فلسفي للواقع

  • مشاركة :
post-title
نجيب محفوظ

القاهرة الإخبارية - محمود ترك

بتشكيل فن سرد عربي ينطبق على البشرية من واقع مجتمعه إلى العالم أجمع، استحق نجيب محفوظ أن يحتفظ لنفسه بلقب "أديب نوبل"، فعادة ما تسبق الألقاب أسماء الأدباء والمشاهير في عالم الكتابة لتُزين مشوراهم الإبداعي، لكن ما يميز لقب الأديب المصري الذي ولد في مثل هذا اليوم عام 1911، استناده إلى تكريم عالمي من قبل الأكاديمية السويدية التي تمنح الجوائز المرموقة سنويًا، ليكون العربي الوحيد في قائمة الفائزين بجائزة نوبل للآداب، والتي حصل عليها عام 1988.

كان نجيب محفوظ يؤمن بأن الإنسان يعيش دائمًا في خوف، ففي فترة الطفولة يخاف من الأشباح المنسوجة في حكايات خيالية، ثم في شبابه يخوض تحديات خاصة، كانت بالنسبة له مشاركته في مظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي ليعيش الخوف من أن يصبح مُطاردًا، ثم الخوف من تطور الأسلحة وما يفعله الإنسان في البيئة من تلوث وتدمير، لتهدأ بعد ذلك مخاوفه مع تقدمه في العمر واكتسابه قدرًا مضافًا من الحكمة.

نجيب محفوظ

الفتي الصغير الذي وُلد في حي الجمالية بالعاصمة المصرية القاهرة، تمنى أن يصبح لاعبًا لكرة القدم، ثم في وقت لاحق تعلقت آماله في أن يصبح شرطيًا، حتى تخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، لتأخذ حياته منحنى مغايرًا، ويعمل في إدارة الجامعة ثم سكرتيرًا برلمانيًالوزير الأوقاف، وتدرج ليكون مراقبًا للشئون الدينية في الوزارة نفسها، وشغل أيضًا منصب مدير مؤسسة القرض الحسن، ثم عضوًا في مجلس إدارة مؤسسة السينما للإذاعة والتليفزيون، ليتقابل مع أطياف مختلفة من المجتمع، أصبحت فيما بعد مادة غزيرة لشخصيات رواياته.

تمسّك نجيب محفوظ بالوظيفة لتؤمن له مصدر رزق ثابت، رغم أنه تمنى أن يكون حرًا ليخدم إبداعه، لكن النظام الوظيفي أفاده كثيرًا في أن ينظّم وقته ما بين العمل الحكومي الثابت وكتابة الروايات والقصص، ليبدأ مشواره الأدبي برواية "عبث الأقدار" الصادرة عام 1939، التي كان اسمها المبدئي "حكمة خوفو"، مستلهمًا أحداثها من التاريخ المصري وعرش فرعون، ثم أصدر "رادوبيس" ولجأ فيها أيضًا إلى التاريخ الفرعوني، مما يشبه بعض ما قدمه ديستوفسكي من إسقاط على الواقع.

نجيب محفوظ
استخدام التاريخ

فضّل أديب نوبل الراحل أن يستوحي من التاريخ أفكارًا تعبر عن واقعه وتنتقده، متخذًا ذلك ستارًا نظرًا للظروف السياسية وقتها، ليعبر عن الأفكار والأماني غير المتحققة وسط أحوال منهارة، إذ قال عن ذلك في لقاء تليفزيوني سابق: "من المضحك أن يتجاهل الأديب واقع وطنه ليفكر في أمور أخرى"، لذا بدأ بالروايات التاريخية التي استهوته، ليقصد بها واقع الحياة التي يعيشها، مفضلًا أن ينتقد ظواهر المجتمع من وراء ستار أو "بواسطة" كما يسميه، بدلا من الهجوم المباشر، فالتاريخ ستار لنقد عيوب المجتمع.

أولاد حارتنا

وواصل نجيب محفوظ حكاياته التاريخية برواية "كفاح طيبة"، قبل أن يتطرق لأمور فلسفية في رواياته، متناولاً حقائق مطلقة مثل الوجود والموت، إذ أصبح مطمئنًا لتناول قضايا ميتافزيقية وجوهر الأشياء، ومنها "أولاد حارتنا" التي وصفها بأنها أقرب إلى النظرية الكونية الإنسانية العامة في كتابه الجديد "الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائية"، وما تزال هذه الرواية محور اهتمام وتحليل العديد من النقاد والمفكرين، ومنها مؤخرًا قراءة للناقد الفلسطيني فيصل دراج في كتاب بعنوان "الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائية".

أولاد حارتنا
عاشق للحرية

كتابات نجيب محفوظ توضح أنه يعشق الحرية، الأمر الذي تعلمه من الأديب عباس محمود العقاد، الذي تأثر به للغاية ويعتبره أحد أبرز الأساتذة الذين استفاد منهم رفقة أدباء آخرين مصريين وعالميين، منهم طه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني وتوفيق الحكيم والروسيان ليو تولستوي وفيودور دوستويفسكي وغيرهم، لكن العقاد خصيصًا تلقن على يديه معنيي الحرية السياسي والفلسفي، كما تعلم منه أن "الأدب رسالة روحية مقدسة وللأديب كرامته التي تساوي أو تتفوق على كرامة صاحب النفوذ والأموال".

الثلاثية الشهيرة

يعتز نجيب محفوظ بثلاثيته الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" والسكرية"، إذ يعتبرها حسب تصريحات إعلامية من أفضل أعماله، خصوصًا أنه تناول من خلالها ثلاثة أجيال مختلفة، فشخصية كمال عبد الجواد تعكس أزمته الفكرية وأزمة جيله، هذا الجيل الذي بدأ يُبصر الحياة عقب ثورة 1919، وسط نظام سياسي ينهار، وأمل في إصلاح اجتماعي واستقلال يختفي، كما تمثلت أزمته الفكرية في محاولة التوفيق بين العقائد الشرقية التي شب عليها في الأخلاق والدين والأفكار العلمية الأوروبية، خصوصًا بين الشباب، فما بين المأساة الفكرية والاجتماعية ظهرت الأزمة في شخصية كمال عبد الجواد.

اتخذ من الشخصية والحادثة الواقعية فرصة فنية للتعبير عن موقفي وآرائي.. هكذا يصف نجيب محفوظ أعماله الإبداعية المستلهمة من واقعة حدثت بالفعل، لذا نجد "سعيد مهران" في رواية "اللص والكلاب" تختلف عن القصة الحقيقية لمحمود سليمان الحقيقي المعروف وقتها إعلاميا بـ"سفاح الإسكندرية"، فمعنى كلمة الأدب الواقعي كما يرى الأديب العالمي يتمثل في أن يُخرج أبعد ما يكون عن سرد قصة لشخص حقيقي في الحياة، فهي مزج بين الحادثة في الحياة والمؤلف نفسه.

وتظهر في هذه الرواية أيضاً اهتمامه بالجانب الصوفي في إبداعاته، متمثلاً في شخصية رجل الدين الذي يلجأ إليه سعيد مهران، فيما يظهر على الجانب الآخر رجل الفكر متجسدًا في المحامي.

ثلاثية نجيب محفوظ
حرية تناول رواياته

مثلما سعى نجيب محفوظ إلى الحرية في أعماله، منحها لغيره من مبدعي السينما الذين حولوا رواياته إلى أفلام سينمائية، إذ كان يرى أن المخرج ليس ملزماً بأن يقدم الرواية كما هي دون تغيير، مقتنعًا بأن صانع السينما يفسر الكتاب أو الرواية مثل الناقد تفسيرًا خاصًا به، لأنه ليس مترجمًا حرفيًا فهو فنان خالق، لذا لم يغضب من التغيير الذي حدث في بعض رواياته ومنها "زقاق المدق"، التي اكتفت المعالجة السينمائية لها بأن تتعرض فقط للخط الدرامي الخاص بشخصية "حميدة"، والتي جسدت دورها الفنانة الراحلة شادية.

محفوظ بين الحارة والوظيفة والأصدقاء

واستمرار للاحتفال بميلاد أديب نوبل، تفتتح نيفين الكيلاني، وزيرة الثقافة المصرية، ظهر غد الإثنين، معرض "نجيب محفوظ بين الحارة والوظيفة والأصدقاء"، بمركز الهناجر للفنون في ساحة دار الأوبرا المصرية.

يضم المعرض مجموعة من لوحات الفن التشكيلي مستوحاة من عوالم نجيب محفوظ، كما يستعرض مسيرة صاحب نوبل المهنية منذ التحاقه بوظيفة كاتب في الجامعة المصرية، مرورًا بعمله بوزارة الأوقاف، ووصولاً لانتقاله لوزارة الثقافة التي شغلَ فيها أكثر من منصب قيادي لحين بلوغه السن القانونية للمعاش في 1971.

كما يضم المعرض جزءًا خاصًا لإهداءات مؤلفات كبار المثقفين والمفكرين لـ"نجيب محفوظ"، بما تحمله من معانٍ وتنبئ بمستقبل باهر للثقافة العربية على يد صاحب "الثلاثية ".

يذكر أن برنامج الاحتفال بمرور 111 عاماً على ميلاد نجيب محفوظ يستمر شهرًا، ويشمل بجانب المعرض، العديد من الفعاليات، منها مؤتمر ولقاء بعنوان "أحفاد نجيب محفوظ "بمقر متحفه بتكية "أبو الدهب" بحي الأزهر، إضافة إلى مائدة مستديرة بعنوان "إني أرنو في رحاب نجيب محفوظ"، وعرض فني بعنوان "رحلة نجيب محفوظ السينمائية.. أغاني الأفلام"، بجانب تنظيم عدد من الندوات في جميع المحافظات.

ومؤخرًا، حرصت إحدى مؤسسات الطباعة والنشر التي كانت حصلت في العام الماضي على حقوق النشر، على طرح نسخة مجانية إلكترونية من تراث نجيب محفوظ الأدبي، يبلغ عددها 16 رواية منها "حديث الصباح والمساء" و"همس الجنون" و"الحرافيش".

زقاق المدق
وسوم :