تنوعت المصالحات الإقليمية ما بين دول فاعلة في إقليم الشرق الأوسط، الذي يضم الدول العربية ودول الجوار الجغرافي غير العربية وهي: تركيا، إيران، وإسرائيل، والتي سيكون لها مردودها على تهدئة الصراعات المتفجرة منذ اندلاع الانتفاضات العربية مع بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، التي أسهمت في حدوث خلل استراتيجي، سمح لدول الجوار غير العربية بمد نفوذها في تفاعلات الإقليم؛ بما أدى لنوع من الاستقطاب الحاد انعكس على استقرار الدول العربية واستهداف مقومات بقائها.
عوامل مؤثرة:
هناك العديد من العوامل التي أسهمت في الاتجاه نحو التهدئة وتخفيض التوتر وعقد المصالحات، وذلك للأسباب الجوهرية التالية:
(*) ارتفاع تكلفة الصراعات: أدى ارتفاع تكلفة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط إلى اتجاه الأطراف الإقليمية للتهدئة والدخول في مفاوضات أو حوارات مباشرة لتسويتها، فعلى سبيل المثال شكل الصراع على سوريا مجالًا لتنافس العديد من القوى الإقليمية غير العربية على تعقد الصراع وارتفاع تكلفته، وقد عمق من ذلك التعقيد تنافس القوى الدولية أيضًا على رقعة الشطرنج السورية، وهو ما انعكس على انهيار الاقتصاد السوري. فقد قدرت تقارير عديدة التكلفة الاقتصادية للصراع بنحو تريليون و200 مليار دولار، كما حصدت الحرب أرواح 600 ألف سوري، وتسببت في نزوح ولجوء 12 مليون شخص داخل سوريا أو خارجها. كما ارتفعت تكلفة التدخلات الإيرانية والتركية في عدد من الدول العربية، وبما سمح لتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية التي شكلت تهديدًا لوحدة وتماسك الدولة العربية في سوريا واليمن والعراق ولبنان. كما أدت الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها شديدة الوطأة من الناحية الاقتصادية إلى اتجاه دول الإقليم نحو المصالحات في ظل الأزمات الاقتصادية التي تُعاني منها جميع الدول بلا استثناء.
(*) التعاون الاقتصادي: شكل التعاون الإقليمي أحد العوامل المؤثرة لتحقيق المصالحات الإقليمية والاتجاه نحو التهدئة وخلق مساحات للمصالح المشتركة، وهو التوجه الذي بدأته مصر بإنشاء منتدى الغاز لشرق المتوسط الذي يضم مصر والأردن وفلسطين وقبرص، اليونان وإيطاليا وإسرائيل، والذي هدف إلى خلق تعاون اقتصادي في مجال الطاقة والصناعات المعتمدة عليها، وأساليب النقل والتوزيع والتسييل. كما مثل التعاون الاقتصادي بين مصر وتركيا بادرة لحسن النوايا للاتجاه نحو استئناف العلاقات بين البلدين، وهو ما تجلى في زيادة قيمة الصادرات التركية لمصر، لتبلغ عام 2021 نحو 4.5 مليار دولار، بزيادة 44.2 في المئة، مقارنة بـ2020، في حين بلغت قيمة وارداتها من مصر 2.2 مليار دولار بزيادة 28.4 في المئة. وإذا أضفنا البعد الاقتصادي الدولي، فإن اتجاه الصين لتنفيذ مشروع الحزام والطريق بما يشمله من شراكات اقتصادية، جعلها تسعى لتوفير بيئة آمنة لحماية مصالحها الاقتصادية، وهو ما تجلى في وساطتها بين السعودية وإيران اللتين تمثلان المصدر الأساسي لتزويدها بالطاقة، فضلًا عن طرح مبادرة الأمن العالمي التي طرحها الرئيس الصيني، شي جين بينج، في 2022.
(*) التضامن الإنساني: أدى الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 فبراير 2023 إلى نوع من التضامن الإنساني، وقيام العديد من الدول العربية للتجاوب الإنساني مع تلك المحنة، من خلال إقرار إرسال المساعدات إلى دمشق وأنقرة، إذ قامت مصر ودول الخليج العربي بإرسال مساعدات إنسانية، للبلدين، وتلقى الرئيسان بشار الأسد ورجب طيب أردوغان اتصالًا هاتفيًا من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما قام سامح شكري، وزير الخارجية المصري بزيارة سوريا وتركيا كنوع من التضامن الإنساني مع البلدين. وبالطبع كان لتلك الزيارة تأثيراتها السياسية على الانفراجة السياسية التي وصفتها بعض الكتابات بدبلوماسية الزلزال.
(*) الانسحاب الأمريكي من المنطقة: كان للتوجه الأمريكي نحو الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط أو بالأحرى تقليل الارتباطات بصراعات المنطقة، برغم حديث الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال قمة جدة بالسعودية، بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك فراغًا تملؤه روسيا والصين، إلا أن المشهد على أرض الواقع يعكس اتجاهًا صينيًا لملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي، وهو ما تجلى في انجاز الاتفاق السعودي الإيراني لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، وهو من شأنه أن ينعكس على باقي الملفات المعقدة التي تعتبر طهران طرفًا فيها.
مصالحات مُتعددة:
ظهرت توجهات إصلاحية جذرية في عدد من الدول العربية، نجم عنها توجهها نحو التهدئة وتخفيض التوتر وتقديم التعاون على التنافس، وعليه ظهرت مجموعة من المصالحات، يُمكن التطرق إلى أهمها على النحو التالي:
(*) المصالحة العربية القطرية: مثلت "قمة العلا" التي عُقدت في يناير 2021 نقطة تحول مفصلية في التهدئة بين الرباعي العربي (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين) وقطر، إذ تبنت القمة الدعوة إلى طي صفحة الماضي وتحقيق المصالحة، وقد وقع سامح شكري، وزير الخارجية المصري، على بيان العلا الخاص برأب الصدع بين الدول العربية، أثناء مشاركته في القمة الخليجية 41 في السعودية. ووفقًا لبيان للخارجية المصرية عقب التوقيع، فقد شدد على حتمية البناء على هذه الخطوة المهمة؛ من أجل تعزيز مسيرة العمل العربي ودعم العلاقات بين الدول العربية الشقيقة، انطلاقًا من علاقات قائمة على حسن النوايا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، فضلًا عن تقدير مصر لكل جهد مُخلص بذل من أجل تحقيق المصالحة بين دول الرباعي وقطر، وفي مقدمتها دولة الكويت الشقيقة على مدار السنوات الماضية.
(*) المصالحة المصرية التركية: مثّل لقاء الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان في الدوحة في 20 نوفمبر 2022 على هامش افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم نقطة التحول الأساسية في مسار استئناف العلاقات المصرية التركية، وهو أول لقاء منذ ما يقرب من عقد. كانت تلك الخطوة قد سبقها تبادل للزيارات على مستوى وفود من وزارات الخارجية في البلدين، واستقبال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لوفد تركي، يضم ممثلين لشركات تركية تعمل في مصر في فبراير 2023 وزيارة سامح شكري، وزير الخارجية المصري، لتركيا في 27 فبراير 2023، وزيارة مولود أوغلو، وزير الخارجية التركي، إلى مصر في 18 مارس 2023.
(*) المصالحة السعودية الإيرانية :استضافت الصين المفاوضات السعودية الإيرانية في الفترة من 6-10 مارس 2023، وتم إعلان بيان ثلاثي يتضمن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، كما تقرر استئناف الاتفاق الأمني الموقع بين البلدين عام 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقعة في عام 1998.
(*) المصالحة العربية السورية: اتجهت الدول العربية نحو تفعيل علاقاتها مع سوريا، وهو ما انعكس على فك العزلة على سوريا، فقد استضافت عواصم عربية الرئيس بشار الأسد، ومنها أبوظبي ومسقط، كما قام الرئيس السوري بشار الأسد بزيارة روسيا في 15 مارس 2023. وهي الزيارة التي أعقبت الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا والعراق. وعلى مستوى الوفود العربية، فقد زار وفد من الاتحاد البرلماني العربي سوريا. وكلها شواهد تُؤكد الاتجاه نحو عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، والسعي لاستئناف عضويتها في جامعة الدول العربية.
تداعيات محتملة:
هناك العديد من التداعيات المحتملة لعقد المصالحات الإقليمية، والتي يُمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) استئناف العلاقات الدبلوماسية: يُشكل استئناف العلاقات الدبلوماسية أحد أبرز تداعيات المصالحات الإقليمية، فالاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، شمل أحد بنوده استئناف العلاقات بينهما خلال شهرين من توقيع الاتفاق، كما أدت المصالحات العربية مع قطر بعد اتفاق العلا إلى ترقية التمثيل الدبلوماسي مع دول الرباعي العربي، مصر والبحرين والسعودية والإمارات، وصولًا إلى تبادل الزيارات على مستوى القمة بين قادة الدول، كما اتجهت العديد من الدول العربية إلى الحديث عن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وعودة سوريا إلى الحاضنة العربية، وصولًا إلى الدعوة لعودة عضويتها في جامعة الدول العربية.
(*) تسوية الأزمات المعقدة: من المُحتمل أن تشكل تسوية الأزمات المنخرطة فيها أطراف المصالحة اختبارًا رئيسيًا لمدى نجاحها، فبالنسبة للاتفاق السعودي الإيراني هناك تحليلات تربط بين نجاحه ومدى التزام إيران بوقف دعم وكلائها لاسيما في اليمن، وهي الحرب التي يقودها الحوثيون وتدعمهم إيران. كما يُشكل التزام إيران بالتخلي عن الترويج لفكرة تصدير الثورة عبر وكلائها في سوريا والعراق ولبنان، واحترام سيادة تلك الدول وعدم التدخل في شؤونها، تشجيعًا للمزيد من المصالحات مع قوى إقليمية فاعلة. أما المصالحة مع تركيا فإنها ربما تنعكس على حلحلة الكثير من الملفات، وربما سيتوقف ذلك على مدى التزامها بعدم التدخل في شؤون الدول العربية ومنها ليبيا وسوريا، إذ اشترط الرئيس بشار الأسد للمصالحة مع تركيا ضرورة انسحابها من الأراضي السورية التي احتلتها في الشمال السوري.
(*) الحد من التنافس الدولي: من المُحتمل أن تُسهم المصالحات الإقليمية في الحد من التنافس الدولي أو توظيف صراعات دول الإقليم في التنافس الدولي، على إعادة تشكيل نظام دولي تسعى القوى المتنافسة على قمته لجعله متعدد الأقطاب، وبديلًا لهيمنة القطب الواحد. وبالتالي فإن إنجاز المصالحات الإقليمية ربما سيسهم في الحد من توظيف أراضي تلك الدول، سواءً في التنافس الدولي بين القوى الكبرى، كما يحدث بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في سوريا أو في التنافس الإقليمي والدولي، كما يحدث بين إيران والولايات المتحدة على أراضي العراق.
(*) إرساء الإقليمية الجديدة: ربما يؤدي إنجاز المصالحات الإقليمية لإرساء مبدأ الإقليمية الجديدة التي تقوم على التعاون ما بين الدول العربية ودول الجوار الإقليمي. وربما تُشكل المصالح الاقتصادية تعزيزًا لإرساء تلك الإقليمية الجديدة، والتي يجسدها على سبيل المثال انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والتنمية، والذي شهد حضورًا مكثفًا للقوى الإقليمية المعنية بالشأن العراقي. أو على مستوى التعاون ما بين الدول العربية كقاطرة للتكامل العربي، والذي تجسده آلية التعاون الثلاثي ما بين مصر والعراق والأردن، والتي تشكلت بالقاهرة في مارس 2019. ولا شك أن مثل تلك التفاعلات أسهمت في استعادة العراق لدوره كجسر للوساطة بين المتنافسين، وهو ما تجسد في دعم المصالحة بين إيران والسعودية، إذ استضاف العديد من جولات الحوار بين السعودية وإيران على مدار عامين (2021،2022) لتقريب وجهات النظر بين البلدين قبل أن تتدخل الوساطة الصينية لتحسم تنفيذ الاتفاق أو ما وصفه البعض باللقطة الأخيرة.
مجمل القول أن إنجاز المصالحات الإقليمية يعود إلى إنهاك الأطراف الإقليمية من الصراعات المعقدة التي استنزفت قدرات الجميع، وأنتجت معادلة لا غالب ولا مغلوب، وعكست الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الدولة العربية وتماسكها والحفاظ على سلامتها الإقليمية، وهي الرؤية المصرية التي لطالما دعت إليها القاهرة للتعامل مع جميع الصراعات المتفجرة، وبالتالي فإن المصالحات الإقليمية ستزيد من فرص التعاون التنموي وخلق مساحات للقواسم المشتركة والحد من التنافس الدولي والإقليمي.