مثَّل تبني عضوي مجلس الشيوخ الأمريكي، الديمقراطي مارك وورنر، والجمهوري جون ثيون، مشروع قانون يسمح للبيت الأبيض بحظر تطبيق "تيك توك" بشكلٍ نهائي، بداية لفصلٍ جديد في حالة التنافس التي تسود العلاقات الصينية الأمريكية في الآونة الأخيرة، لا سيَّما في جانبها التقني والتكنولوجي؛ إذ بات هناك ما يُشبه حربًا باردة بين البلدين فيما يتعلق بتطوير أدوات التقانة، أو السعي إلى امتلاكها.
وقد رحَّب البيت الأبيض على لسان، جايك سوليفان، مستشاره للأمن القومي، بالخطوات التي اتخذها مجلسي الكونجرس نحو حظر التطبيق، مُعتبرًا أنها خطوة مهمة نحو حماية سرية المعلومات للشعب الأمريكي. وتُعد سياسة التعامل مع صعود الصين محل توافق بين الحزبين الديمقراطي، والجمهوري؛ إذ بات ذلك أحد أهم مُحددات السياسة الخارجية الأمريكية نحو الصين، بغض النظر عن حالات التغير والاستمرار في النخبة السياسية بواشنطن.
توضيحًا لما سبق، يحاول هذا التحليل، الإجابة عن السؤال التالي، وهو: ما أسباب استهداف واشنطن تطبيق "تيك توك" الصيني في هذا التوقيت؟
لماذا انتشر “تيك توك” سريعًا؟:
مثَّل انتشار تطبيق "تيك توك" منذ انطلاقته في 2017 فرصة أمام الكثير من الشباب والمراهقين للتعبير عن أنفسهم في مجال الفضاء المتسع؛ حيث يتميز “تيك توك” عن يوتيوب على سبيل المثال أنه يُمكنِك من عمل فيديوهات خاصة والتعديل عليها، فضلًا عن سرعة انتشارها، مما جعل البعض يصفه بأنه بات بوابة للشهرة، وتتجه الشركات الناشئة والكبرى إلى الإعلان على التطبيق الذي بات أكثر التطبيقات تنزيلًا حول العالم مع نهاية عام 2022، ووصلت مرَّات تنزيله إلى 3.5 مليار مرة منذ إطلاقه في 2016، نشير فيما يلي إلى أبرز تفسيرات انتشاره السريع:
(*) تقويض منافسيه: يُسابق تطبيق "تيك توك" المملوك لشركة "بايت دانس" الصينية منافسيه؛ حيث يُقوض بإعلاناته الرخيصة وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى لا سيَّما الأمريكية. ويُعد التطبيق الوجهة المفضلة للمعلنين والهيئات الصناعية والعلامات التجارية؛ بسبب انخفاض التكاليف ومستويات المشاركة الأفضل عند مقارنته بتطبيقات تويتر وميتا ((Meta الأمريكية المالكة لتطبيقي انستجرام وفيس بوك. ونمت الشركة الصينية إلى أكثر من مليار مستخدم خلال مدة لا تتجاوز سبع سنوات. وقد حقق التطبيق عائدًا يُقدر بأكثر من 10 مليارات دولار خلال عام 2022 رغم ظروف جائحة كورونا وفق تقرير نشره موقع فاينانشال تايمز أوائل عام 2023.
(*) تحقيق الشهرة والتواصل: ينتشر التطبيق في أوساط الشباب والمراهقين، وهم من أكثر الفئات التي تبحث عن الشهرة والتواصل مع أكبر عددٍ من الناس، وهو الأمر الذي يوفره التطبيق. يُضاف إلى ذلك اعتماد التطبيق على التأثيرات الموسيقية والمرئية، وهي أسرع في الانتشار من المحتويات المقروءة والمكتوبة. وبات ينتشر بين فئات الشباب المختلفة مقالات ونصائح حول كيفية أن تتحول إلى مشهور من خلال استخدام هذا التطبيق.
(*) القدرة على استقطاب المشاهير: حرص التطبيق في بداياته على استقطاب كبار المشاهير في جميع المجالات، سواءً الفن أو العلوم أو السياسة، وذلك عبر تقديم مجموعة من الإغراءات المادية والمعنوية لهم. وفي هذا السياق، عمل “تيك توك” على دراسة خطة في مايو 2022 تتضمن تقاسم عائدات الإعلانات، مع أبرز صناع المحتوى على المنصة، وذلك لتحقيق تقارب مع النموذج المعتمد لدى المنصات المنافسة مثل انستجرام. وقد ساعدت هذه الخطوة على اكتساب مزيد من المشتركين على التطبيق، ومن المتوقع أن يبلغ عدد مستخدمي هذا التطبيق 2 مليار مستخدم نشط بحلول عام 2023.
استهداف مدروس:
تعتبر التحليلات أن استهداف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لتطبيق "تيك توك" بمثابة حرب تكنولوجية مدروسة؛ لتقليص أي نفوذ صيني محتمل في مجالات التقانة، نبرز فيما يلي مُؤشرات هذا الاستهداف:
(*) التضييق على استخدام التطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية: بعد تضاعف شعبية تطبيق “تيك توك” داخل الأراضي الأمريكية في عام 2020 بعد وصوله إلى أكثر من 89 مليون مُشترك وقتها، تعهد دونالد ترامب بحظره بناءً على مخاوف من استخدام الحكومة الصينية للمنصة لإنشاء ملفات معلومات شخصية للابتزاز وإجراء تجسس على الشركات الأمريكية. وقد بدأت الولايات الأمريكية الحرب على التطبيق الناشئ مبكرًا، مُتهمة إياه بالتجسس وجمع المعلومات لصالح الحكومة الصينية، وهو ما تنفيه شركة "بايت دانس". وقد اتخذت أكثر من 19 ولاية أمريكية قرارًا بحظر التطبيق جزئيًا، ولو على مستوى المؤسسات الحكومية، ويتجه حاليًا الكونجرس لفرض حظر شامل على التطبيق. وقد أمهل البيت الأبيض الوكالات الفيدرالية مهلة لحذف التطبيق خلال 30 يومًا بدأت منذ 28 فبراير 2023.
(*) تنافس رسمي محتدم على امتلاك التقنية: وفرت إدارة الرئيس جو بايدن الدعم السياسي اللازم لمجلسي الكونجرس للوصول إلى خطوة سن تشريع يُمهد الطريق نحو حظر تطبيق "تيك توك". من ناحيتها، أعربت وزارة الخارجية الصينية في 28 فبراير 2023 على لسان المتحدثة الرسمية، ماو نينج، عن إدانتها للسياسة الأمريكية تجاه “تيك توك”، مُعتبرة أن واشنطن تبالغ في التعامل مع التطبيق، وهو ما يُمثل إساءة استخدام لسلطة الدولة في قمع الشركات الأجنبية. ودعت ماو نينج الحكومة الأمريكية إلى احترام مبادئ اقتصاد السوق والمنافسة العادلة.
(*) إصدار قانون ردع الخصوم التكنولوجيين للولايات المتحدة: وافقت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، والتي يقودها الجمهوريون في 1 مارس 2023 على تمرير مشروع قانون "ردع الخصوم التكنولوجيين لأمريكا"، أو ما يُعرف اختصارًا بـ ""DATA، والذي يمنح الرئيس جو بايدن النفوذ نحو حظر تطبيق “تيك توك” أو أي تطبيقات أخرى تهدد النفوذ الأمريكي في هذا المجال. ويحتاج هذا المشروع نيل موافقة مجلسي النواب والشيوخ، وتوقيع الرئيس "بايدن" عليه حتى يصبح قانونًا ساريًا، وهو الأمر الذي بات قريبًا رغم رفض الشركة الصينية لهذه الاتهامات، وسعيها لفتح حوار مباشر مع المؤسسات الأمريكية المُختلفة، بهدف تبديد مخاوفها الأمنية.
(*) تماهي غربي مع السياسة الأمريكية تجاه "تيك توك": حظر البرلمان الأوروبي، والمفوضية الأوروبية استخدام تطبيق “تيك توك” على أجهزة موظفيها لتخوفات أمنية؛ إذ رأت المفوضية أن هذه الخطوة تهدف إلى حماية الأمن الإلكتروني لموظفيها، ودعت المفوضية أطقمها الوظيفية إلى الامتثال لهذا القرار في وقت غايته 15 مارس القادم؛ تجنبًا لانقطاع الخدمات الإلكترونية التي تقدمها لموظفيها، مثل خدمة البريد الإلكتروني على سبيل المثال. من جانبها، أقدمت مجموعة من الدول الغربية، مثل كندا على هذه الخطوة دون أن تلتفت للتطمينات التي حاولت شركة "بايت دانس" المالكة للتطبيق بثها لشركائها التجاريين. ومن المُحتمل أن تُقدم الدول الأوروبية على حظر التطبيق، خاصةً إذا نجح الكونجرس الأمريكي في تمرير هذا التشريع.
لماذا "تيك توك"؟:
لدى واشنطن في هذا التوقيت العديد من المخاوف، بشأن التهديدات المحتملة التي من الممكن أن يتسبب بها تطبيق “تيك توك” الصيني، ومن أبرز هذه الأسباب:
(*) رفض هيمنة الصين على مجال التطبيقات الذكية: تُبرز الشواهد المُختلفة أن استهداف تطبيق “تيك توك”، يأتي كحلقة من حلقات التنافس الصيني الأمريكي؛ إذ ترفض واشنطن التي تتربع على عرش التطبيقات الذكية على المستوى العالمي أن يزاحمها أحد في هذا المجال، خاصةً إذا كانت الصين التي استطاعت من خلال "شركة هواوي" أن تهدد عرش الشركات التكنولوجية الأمريكية، وذلك قبل تراجعها بعد حملة الاستهداف الممنهجة التي طالتها من قِبل واشنطن؛ إذ تم فرض حظر على تصدير أشباه الموصلات للشركة، بالإضافة إلى حرمان الشركة من استخدام التكنولوجيا الأمريكية وتصنيفها كمهددة للأمن القومي الأمريكي، وهو ما كان مقدمة لتراجع الشركة وانهيار مبيعاتها في السوق العالمية، بعد أن كانت متصدرة المبيعات.
(*) اتهامات بالتجسس: يجادل منتقدو الكونجرس بأن الحكومة الصينية يُمكنها استخدام تطبيقTikTokللحصول على البيانات الشخصية للأمريكيين، وذلك بموجب قانون الأمن لعام 2017 الذي يُلزم الشركات الصينية بالتعاون مع قواتها الأمنية، ويتهم محللو الأمن السيبراني التطبيق بمضايقة ملايين المستخدمين أثناء جمع بياناتهم.
وترد الشركة على هذه المخاوف بأن بيانات الأمريكيين الذين يستخدمون التطبيق لم تغادر الأراضي الأمريكية؛ إذ إنها محفوظة في خوادم شركة "أوراكل" الأمريكية في ولاية فيرجينيا، وذلك وفق اتفاقية بين الشركة والحكومة الأمريكية، تضمن عدم وصول الشركة الصينية الأم إلى بيانات المستخدمين على الأراضي الأمريكية، ويرى الساسة الأمريكيون أن التطبيق لديه حالة من الهوس لجمع المعلومات وبيانات المستخدمين، ويعتقدون أنه في حال تسرب هذه المعلومات لحكومة بكين سيُمكنها من تحقيق طموحاتها الجيوسياسية، على حساب مصالح واشنطن. وفي الوقت الذي أرجعت فيه مجموعة من الدول حظر التطبيق على أراضيها، مثل الهند، إلى تخوفات من وصول معلومات المستخدمين الهنود وتنميطها، بما يهدد الأمن القومي الهندي، وعزت دول مثل الأردن وباكستان وإندونيسيا قرار حظر التطبيق على أراضيها بعدم توافق محتوى التطبيق مع عادات وتقاليد بلادهم.
(*) اتهامات تتعلق بسرقة بيانات المستخدمين: تمتلك الشركة الصينية المالكة للتطبيق تقنيَّات تجعلها تستطيع الوصول إلى معلومات حول نظام ونوع الهاتف ومعلومات الاشتراك دون الحاجة للاتصال بشبكة واي فاي، ودون الحاجة إلى وجود شريحة اتصال بالهاتف المحمول، وذلك وفق ما أورده موقع فاينانشال تايمز في تقرير له في منتصف فبراير 2023. ويطلب التطبيق من المستخدمين تصريحًا للوصول إلى جهات الاتصال، كما أنه لديه تقنية جمع المعلومات عن التطبيقات الأخرى المتوفرة على الجهاز. واتخذت الشركة الصينية مجموعة من الخطوات الأمنية لطمأنة الأوروبيين، مثل العمل على إنشاء خوادم لبيانات المستخدمين في هذه الدول؛ مما يُصعب عملية نقلها أو سوء استغلالها.
(*) اتهامات الإضرار بالمجتمع الأمريكي: من القضايا التي أثارت الكونجرس بشأن التطبيق، القلق من إضرار التطبيق بالصحة العقلية للأجيال الأمريكية، خاصة المراهقين، ويتهمه الأمريكيون أنه مُصمم لتقويض تفكير المراهقين، من خلال تشتيت انتباههم عبر تفاهات المشاهير التي تُسبب الإدمان، ويستشهد الخبراء في شكوكهم على اختلاف المحتوى الذي يظهر للمراهقين في أمريكا عنه في الصين؛ إذ يُقدم في الصين محتوى تعليميًا مفيدًا للأطفال، وهو الأمر الذي تنفيه الشركة؛ إذ يعمل التطبيق وفق الخوارزميَّات، وليس هناك أي دور لتدخل العنصر البشري.
في الختام، يُثبت تعاطي القوى الكبرى مع تطبيقات التقنية أهمية البيانات كأساس لتوجيه البشر سياسيًا واقتصاديًا، والتحكم في تفضيلاتهم عبر مجموعة من الخوارزميَّات. وفي هذا السياق، لا يُمكن أن تنطبق اتهامات جمع البيانات الشخصية، واستخدام الخوارزميَّات لتحقيق أهداف سياسية وتجارية على تطبيق "تيك توك" والصين وحدهما؛ إذ إن الشركات الأمريكية نفسها تقوم بنفس العمل بل تتجاوز ذلك، وهو ما برز في فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" التي كشف من خلالها تسريب معلومات عشرات الملايين من المستخدمين دون علمهم لشركة كامبريدج أناليتيكا المسؤولة عن حملة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. ويُمكن تجاوز هذا السجال بضرورة أن تكون الأولوية الحقيقية للولايات المتحدة والدول الغربية سن ضوابط شاملة لعمل هذه التطبيقات وليس حظرها.