انعكست تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير 2022 على تفاعلات المنطقة العربية مع القوى المنخرطة في الصراع المعقد، الذى يوصف بكونه حربًا عالمية تشارك فيها أطراف دولية، إذ هدفت روسيا لحماية أمنها القومي من خلال منع تمدد حلف الناتو على تخومها الاستراتيجية، فضلًا عن سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعاد المكانة الروسية على مسرح السياسة الدولية من خلال نظام متعدد الأقطاب يعترف بالدور العالمي لروسيا، فى حين وظّفت الدول الغربية وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية الصراع لدعم أوكرانيا واستنزاف القدرات الروسية الاقتصادية والبشرية والعسكرية لتأكيد هيمنتها على النظام الدولي. وما بين التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا، والتحالف الروسي ومسانديه حاولت الدول العربية أن تتمسك قدر الإمكان بمبدأ عدم الانحياز لأي من الطرفين، وعدم انخراطها في أتون التنافس الدولي، وبرغم ذلك فثمة مكاسب حققتها وخسائر مُنيت بها بعض اقتصاداتها.
مكاسب عربية:
هناك العديد من الفرص والمكاسب التي حققتها الدول العربية بعد مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية، التي يمكن إبرازها فى العناصر التالية:
(*) عدم الانحياز العربي: يحسب لقادة الدول العربية الفاعلة في النظام الإقليمي العربي نجاحهم في تجنيب المنطقة العربية الدخول في أتون الاستقطاب الدولي من خلال الالتزام بمبدأ عدم الانحياز لأي من الطرفين، لا سيما أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى حالة من الاصطفافات السياسية ما بين القوى الداعمة لروسيا من ناحية، وقوى التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية من ناحية أخرى. وهو الموقف الذى يتماشى مع ما جاء في البيان الختامي للقمة العربية بالجزائر في نوفمبر 2022، حيث شدد البيان على الالتزام بمبادئ عدم الانحياز وبالموقف العربي المشترك من الحرب الذى يقوم على نبذ استعمال القوة، والسعي لتفعيل خيار السلام عبر الانخراط الفعلي لمجموعة الاتصال الوزارية العربية التي تضم الجزائر، مصر، الأردن، الإمارات، العراق، والسودان، والأمين العام لجامعة الدول العربية، في الجهود الدولية الرامية لبلورة حل سياسي للأزمة يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويراعي الشواغل الأمنية للأطراف المعنية، مع رفض تسييس المنظمات الدولية.
(*) الوساطات العربية: تنوعت وساطات الدول العربية لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، ففي نوفمبر 2022 وخلال قمة شرم الشيخ للمناخ (كوب 27) وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي نداءً باسم القادة المشاركين فى القمة، لوقف الحرب نظرًا لتداعياتها على جميع الدول، كما سعت الإمارات والسعودية لتعزيز وساطتهما لإنهاء الحرب.
(*) المساعدات الإنسانية العربية: تنوعت المساعدات الإنسانية العربية إلى أوكرانيا لا سيما من دول الخليج العربي، إذ أمر رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد في أكتوبر 2022 بتقديم 100 مليون دولار في صورة مساعدات إغاثية إنسانية إلى المدنيين الأوكرانيين المتضررين من الأزمة. وفي أبريل 2022 أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية إرسال طائرة تحمل 50 طنًا من المساعدات الإنسانية إلى بولندا لدعم اللاجئين والنازحين الأوكرانيين. كما أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان نهاية فبراير 2023 وخلال زيارته إلى أوكرانيا عن تقديم السعودية حزمتين من المساعدات لأوكرانيا بقيمة 410 ملايين دولار منها 300 مليون دولار من الصندوق السعودي للتنمية، لدعم أوكرانيا بالغاز المسال ومشتقات النفط كمنحة مقدمة من الحكومة السعودية، فيما يقدم مركز الملك سلمان للإغاثة مساعدات إنسانية لأوكرانيا بقيمة 100 مليون دولار.
(*) تأمين الطاقة العربية كبديل للطاقة الروسية لأوروبا: لم تتجاوب دول الخليج العربي مع الضغوط الأمريكية لزيادة إنتاج النفط في إطار أوبك بلس؛ للحد من تأثير تراجع معدلات النفط والغاز المصدّر من روسيا للدول الأوروبية على اقتصاداتها في ظل العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على موسكو، لا سيما أن أوروبا تعتمد فى استهلاكها على 40 في المئة من الغاز الروسي. وهو الأمر الذي ثمّنه "إعلان الجزائر" وإشادته بالسياسة المتوازنة التي انتهجها تحالف "أوبك بلس" من أجل ضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة واستدامة الاستثمارات في هذا القطاع الحساس ضمن مقاربة اقتصادية تضمن حماية مصالح الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء. لذلك سعت الدول الأوروبية لتنويع مصادر حصولها على الطاقة من الدول العربية كبديل للطاقة الروسية، فقد عقدت إيطاليا مع الجزائر اتفاقًا في يوليو 2022 لتزويد إيطاليا بكميات كبير من الغاز بلغت قيمتها 4 مليارات دولار، واتفق البلدان على إنشاء خط لنقل الغاز من الجزائر إلى إيطاليا، كما اتجهت ألمانيا إلى قطر لتأمين إمدادات الغاز من خلال اتفاق طويل الأمد، ففي نوفمبر 2022 تم الإعلان عن موافقة قطر على مد ألمانيا بمليوني طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًا على مدى 15 عامًا على الأقل، حيث ستتولى شريكة "قطر للطاقة"، الأمريكية "كونوكوفبليبس"، توريد الغاز من مشروعي حقل الشمال الشرقي وحقل الشمال الجنوبي اعتبارًا من عام 2026 إلى محطة برونزبوتل للغاز الطبيعي المسال. إذ تستهلك ألمانيا نحو 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، وتستورد نحو 55 في المئة من روسيا، كما وقعت فرنسا والإمارات في يوليو 2022 اتفاقيتين؛ الأولى شراكة استراتيجية شاملة في مجال الطاقة بين البلدين، والثانية اتفاقية شراكة استراتيجية بين شركتي أدنوك وتوتال إنرجيز كتعاون طويل الأمد لزيادة إنتاج الغاز والتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه.
خسائر متنوعة:
برغم تنوع مكاسب بعض الدول العربية من الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن ثمة العديد من الخسائر التي مُنيت بها المنطقة العربية فى الذكرى الأولى للحرب، ولعل أبرزها يتمثل في التالي:
(#) التحديات الاقتصادية: أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تداعيات شديدة الوطأة على اقتصادات عدد من الدول العربية، لا سيما تلك الاقتصادات الناشئة والاقتصادات العربية غير النفطية التي تأثرت بارتفاع أسعار الطاقة، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فضلًا عن تأثر حركة السياحة الأوكرانية والروسية إلى عدد من الدول العربية.
(#) الأمن الغذائي العربي: شكلت الحرب الروسية الأوكرانية تهديدًا لإمدادات سلاسل توريد الحبوب والبذور الزيتية، بما أدى لزيادة أسعار الأغذية وارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية في قطاع الزراعة في عدد من الدول العربية، ووفقًا لتقارير البنك الدولي الصادرة في يوليو 2022، فإن سوريا ولبنان واليمن تعد من الدول الهشة التي يتعرض أمنها الغذائي لخطر بسبب الحرب، فسوريا تستورد نحو ثلثي احتياجاتها من المواد الغذائية والنفط، وتأتى معظم وارداتها من القمح من روسيا، ولبنان يستورد من أوكرانيا وروسيا أكثر من 90 في المئة من احتياجات الحبوب، كما يستورد اليمن نحو 40 في المئة من احتياجاته من القمح من روسيا وأوكرانيا.
(#) انخراط دول الجوار العربي في الصراع: تتمايز دول الجوار العربي (إيران، تركيا، إسرائيل) بشأن موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، ففي حين تدعم إسرائيل وتركيا التحالف الداعم لأوكرانيا باعتبار أن تركيا عضو في حلف الناتو، إذ تشير بعض التقديرات إلى دعمها لأوكرانيا بالمسيّرات التركية مثل "البيرقدار"، في حين تتجه إيران نحو دعم روسيا ومساندتها بالمسيّرات الإيرانية مثل "شاهد 136"، و"مهاجر6". وهو الأمر الذى من شأنه أن يجعل من المنطقة العربية ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ومنها ما قامت به روسيا باستهداف القوى المدعومة من تركيا في الشمال السوري، واعتبرته بعض التحليلات ردًا على إمداد تركيا لأوكرانيا بالمسيّرات التركية. وللمفارقة فإن تركيا تستورد 70% من قمحها من روسيا، كما تعتمد على روسيا فى 45% من طلبها على الغاز الطبيعي، 17% من النفط، و40 في المئة من البنزين بحسب تقارير تركية.
مجمل القول؛ إن الحرب الروسية الأوكرانية بقدر ما أتاحت فرصًا للدول العربية لإعلاء مبدأ عدم الانحياز لأي من الطرفين للحد من الاستقطاب الدولي في المنطقة، والاتجاه نحو تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع القوى الكبرى، بقدر ما كان لها تداعياتها السلبية على اقتصادات الدول الناشئة، لا سيما فيما يرتبط بالأمن الغذائي وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. وهو ما يتطلب توظيف الإمكانات العربية لخدمة التنمية العربية والحد من تأثيرات الحرب على الدول الهشة في المنطقة العربية، فهي وإن كانت تمثل 6% فقط من إجمالي سكان العالم، فإن بها أكثر من 20% ممن يعانون من نقص حاد في الأمن الغذائي بالعالم.