صدق الموهبة وبراعة الأداء صنعا من الفنانة الراحلة ليلى مراد أيقونة السينما الاستعراضية، إذ استطاعت أن تُحدث طفرة في السينما في فترة الأربعينيات، وتقدم موضوعات عاشت عبر الزمن؛ لتنسج بصوتها العذب وأدائها الرشيق سيمفونية من الفن الراقي، وبذكاء شديد قدمت أفلامًا غنائية عاشت عبر الأجيال.
مولدها
قبل نحو 105 أعوام من الزمن، ولدت ليلى مراد في مثل هذا اليوم 17 فبراير 1918، لأسرة متواضعة الحال من الإسكندرية، حيث تعلمت الفن على يد كبار المقرئين والمشايخ من أمثال الشيخ محمد رفعت وغيره، وكانت ترافق والدها في المناسبات المختلفة، لتنمو الموهبة بداخلها وشقيقها الفنان منير مراد، إذ لحن الأخير لها عددًا من الأغاني، حتى إنها تعتبر أغنية "طبيب القلب" من أقرب الأغاني لقلبها، بحسب ما قالته في لقاء تليفزيوني لها مع الملحن بليغ حمدي.
لمع شعاع تألق ليلى مراد في الزمن الماضي، ولا يزال صدى صوتها يعانق أيامنا لنعيش معه الحاضر ويكشف عن الماضي، فكانت موضوعات أفلامها وأغانيها تصلح في كل عصر، فهي قيثارة الغناء العربي، التي لم تكن مجرد مطربة في تاريخ زمن الفن الجميل، ولكنها طراز فريد وحالة خاصة في الغناء والتمثيل.
الغناء أولًا وأخيرًا
عرف الجمهور ليلى مراد كمغنية قبل أن تتفجر مواهبها التمثيلية أمام المُشاهد، إذ عرفت الإذاعة المصرية صوتها المميز وبدأت حياتها بها ولم تتخل عنها حتى بعد اعتزالها التمثيل، فلم يكن للشاشة الكبيرة نصيب كبير من سنوات عمرها، إذ قضت نحو 17 عامًا فقط كممثلة قدمت خلالها نحو 27 فيلمًا، بينما عاشت باقي عمرها كمطربة لم يشبهها أحد في الصوت والأداء.
موسيقار الأجيال
كانت بداية ليلى مراد الحقيقية أمام الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وجمعهما أول لقاء في حفل غنائي ببيتها أقامه والدها لعدد من الفنانين، ليتبنى موسيقار الأجيال موهبة ليلى مراد ويعتبرها مشروعه الفني، فقدمها لأول مرة في السينما في فيلمه "يحيا الحب" والذي غنت فيه، وكانت غالبية أغانيها بمشوارها الفني من ألحانه.
كانت ليلى مراد تدين بالفضل لمحمد عبد الوهاب في اكتشاف ودعم موهبتها وكانت تناديه بـ"الأستاذ" وقالت عنه في لقاء سابق لها: "اعتبر الأستاذ محمد عبد الوهاب، "ترزي شاطر" جدًا، فهو يذاكر صوت مَّنْ أمامه ويُفصّل له أغاني وألحانًا على مقاس صوته حتى لا يظهر عيوبه، وأول مرة سمعني فيها في مناسبة في بيتنا وغنيت له أغنيته "ما بنيت قصر الأماني" وكانت من الأغاني الصعبة جدًا وعبرت عنها بإحساس، فكان معجبًا جدًا بما قدمته لصعوبة أداء الأغنية، وقال لوالدي إنني سأنجح نجاحًا باهرًا، وفي اليوم التالي تعاقد معي لتقديم عدد من الأغاني".
يوسف وهبي
وقفت ليلى مراد أمام كبار النجوم، فجمعها فيلمها الثاني بالفنان القدير يوسف وهبي في "ليلة ممطرة"، ثم توالت الأعمال الفنية بينهما مثل "ليلى بنت مدارس" و"ليلى بنت الريف"، إذ كانت تقول عن يوسف وهبي في لقاء تليفزيوني سابق: "كان فنانًا متواضعًا، فلا يُشعر أحدًا أنه يوسف بك وهبي، يتعامل ببساطة وكأنه شخص عادي جدًا مثل عامل أو موظف داخل البلاتوه، فلم أكن أخاف منه".
أنور وجدي والنضج الفني
جاءت النقلة النوعية في حياة ليلى مراد بعد أن قابلت أنور وجدي، ورغم شهرتها وتصدرها البطولات ولكن بذكائه الشديد استطاع أن يأخذها لمنطقة جديدة عليها، وعاشت معه حياة مليئة بالنجاح الفني، إذ قدمت معه عددًا من أشهر أفلام السينما المصرية مثل "عنبر" و"ليلى بنت الفقراء"، و"ليلى بنت الأغنياء"، و"قلبي دليلي"، و"غزل البنات" و"الهوى والشباب"، و"بنت الأكابر"، ووصل رصيد أعمالهما معًا لنحو 11 فيلمًا.
أول فيلم وزيجة
كانت ليلى سببًا في تشجيع أنور وجدي على خوض تجربة الإخراج لأول فيلم جمعهما معًا، وتقول عن بداية علاقتهما وكيف جاء تعاونهما: "كنت أصور فيلم "شهداء الغرام"، لقصة عن روميو وجوليت، وكان أنور وجدي يظهر في دور ثانٍ بالفيلم وأثناء تصوير العمل عرض علىّ فكرة فيلم لأقوم ببطولتها ومع إلحاحه وافقت على الفيلم بعد أن أخبرني باسم المخرج، وكانت أول تجربة إنتاج له مع عدد من شركائه ووضع فيها كل ما يملك من أموال متواضعة، وعندما سألني عن أجري قلت له 15 ألف جنيه، فأصابته الدهشة لدرجة أنه سقط من فوق الكرسي الذي كان يجلس عليه، وبعد إلحاح منه وافقت على تخفيض أجري لـ 12 ألف جنيه، وأثناء التجهيز للفيلم المخرج دخل المستشفى فعرضت على أنور وجدي أن يقوم بالإخراج ولم يصدق نفسه وطار من الفرح، وبالفعل أخرج لي "ليلى بنت الفقراء" وحقق نجاحًا منقطع النظير بعد عرضه، وحدث زواجنا أثناء تصوير العمل".
عصبية أنور وجدي
رغم أن ليلى مراد شكّلت ثنائيًا فنيًا مع أنور وجدي، وتلاقيا فنيًا، لتقول عن ذلك: "كان أنور وجدي أكثر فنان تجاوبت معه في التمثيل والغناء ربما لأنه زوجي"، ولكن هذا الإحساس والزواج لم يدم طويلًا بعد أن عانت من منغصات هذه الزيجة وانفصلا بعد 8 سنوات لتقول عن ذلك: "تزوجته وكنت في سن صغيرة واكتشفت أنه عصبي جدًا؛ بسبب إصابته بالمرض الخبيث والذي كان يسبب له نوبات عصبية، ولم أتحمل عصبيته وانفصلنا، ربما إذا كنت أكبر في السن كنت سأتحمله".
اعتزال الفن
رغم الابتسامة التي لم تفارق شفاه ليلى طوال حياتها أمام كاميرات الأضواء، ولكنها عانت كثيرًا في حياتها، ليؤكد نجلها الراحل زكي فطين عبد الوهاب أن أنور وجدي كان سببًا في ألمها في مرحلة من حياتها، إذ يقول عن ذلك في لقاء تليفزيوني له: "أمي عُذبت في حياتها، وكان أنور وجدي سببًا في ذلك، وأنا لم أكن أحبه في الطفولة ربما بسبب غيرتي عليها كطفل، ولكن عندما كبرت أمي حكت لي ما فعله بها فكرهته أكثر؛ لأنها تعذبت معه كثيرًا، فجدي زكي مراد كان يضغط عليها وكانت تعاني من ذلك، وجاء أنور ليحميها من سلطة جدي، ولكنه مع الوقت أصبح مُتسلط عليها، فأمي كانت سيدة بسيطة لا تريد شيئًا وتفرغت لتربية أولادها واعتزلت التمثيل بعد إنجاب شقيقي أشرف أباظة عام 1953".
خجل من مواجهة الجمهور
رغم تميزها في الغناء والتمثيل الاستعراضي ولكن شخصيتها الخجولة منعتها من الوقوف على المسرح، فيكشف زكي فطين عن ذلك: "أمي لم تغن نهائيًا على خشبة المسرح بشكل مباشر للجمهور، فكانت تشعر بالرعب من الوقوف عليه؛ لأنها كانت شديدة الخجل، حتى إنها دائمًا كانت تتعجب كيف تقف أم كلثوم على خشبته وتغني لأكثر من ساعتين للجمهور".
أول أغنية بعد الاعتزال
كان صوت ليلى مراد يُسمع ويُرى، في الوقت نفسه يخطف المسامع والأذهان، وكانت حريصة على العطاء ولديها حنين للغناء، رغم اعتزالها التمثيل، لتقدم أغنية "متهجرنيش وخليني لحبك أعيش" والتي تعد أول أغنية تعود بها بعد اعتزلها التمثيل، وتمثل أول تعاون بينها والملحن حلمي بكر، ليقول الأخير عن هذا الموقف: "ليلى مراد بكت عندما سمعت صوتها بعد تسجيل الأغنية؛ لتكتب مقالًا صحفيًا بعنوان "حكاية الملحن الذي ذكّرني بليلى مراد منذ عشرين عامًا".
رصيد أغانيها
قدمت ليلى مراد أجمل الأغاني مثل "أنا قلبي دليلي" و"أبجد هوز" أمام نجيب الريحاني، و"الدنيا غنوة"، و"شحات الغرام" أمام محمد فوزي، و"مين يشتري الورد"، "يا مسافر وناسي هواك"، وغيرها من الأغاني التي تجاوزت الـ 100 أغنية متنوعة قدمتها، سواءً للإذاعة المصرية أو بأفلامها.
رحيل الجسد وبقاء الموهبة
كانت حياة ليلى مراد تعبر عن مقولة "الدين لله والوطن للجميع" فعاشت بديانة غير الإسلام وتألقت وتوهجت ثم أعلنت إسلامها عام 1946، وقدمت أشهر أغنياتها "يا رايحين للنبي الغالي" عام 1953 في فيلم "ليلى بنت الأكابر"، ورغم رحيل ليلى، ولكن أصداء صوتها تصدح في سماء الفن مُعلنة أن الموهبة لا تموت وإن رحل الجسد لتخلّد اسمها بما قدمته لجمهورها العريض في أنحاء الوطن العربي.