بحار هائم في عالم خاص، تأخذه موجة وترجعه أخرى، يتنقل بين البلاد حاملًا بداخله عوالم مختلفة، اكتسب من كل بلد ثقافة جديدة، يقرأ ليزيد خياله علمًا، ينقل ما يتعلمه ويقابله في حكايات للمارة، قصص قصيرة، وروايات تحمل من روحه الكثير، ولكن الأدب عنده لم يتوقف عند التجارب التي عاشها وصاغها، إذ تخطت الحدود باحثًا بسفينته عن جزء جديد من البحر لم يُكتشف بعد، حيث قرر اكتشاف عالم الجاسوسية والحكايات وراء أبطال مصر، ليصبح الأديب صالح مرسي الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده أحد رواد أدب الجاسوسية في الوطن العربي، ولكن رغم تألقه في هذا العالم لم ينس أنه بدأ من البحر فأحب أن يعود إليه.
صالح مرسي ابن محافظة الغربية بدلتا مصر، الذي ولد عام 1929، عشق الفن دون أن يدري، فتعلّق منذ صغره بمسرحيات الفنان الكبير يوسف وهبي، مثلما ارتبط بالقراءة والبحث عن القصص والروايات واستمتع بحكاياتهم، ويقول في لقاء تلفزيوني سابق: "كان والدي يعشق القراءة وأنا كذلك كنت مطلعًا وأحب أن أبحث في مكتبته عما يقرأ، وذات يوم وقع تحت يدي رواية ألف ليلة وليلة، فوجدت نفسي غارقًا في تفاصيلها وأحببت هذا العالم وأنا ابن الثانية عشرة من عمري، وتعلقت أكثر بالقراءة".
ويتابع صالح حكاياته مع الكتب قائلًا: "كنت أشتري بمصروفي كتبًا، وإذا وجدت سعر الكتاب باهظًا أستأجره، إذ كانت هناك مكتبة أثناء الحرب العالمية الثانية في طنطا تسمى فك الأزمة، كنا نشترى منها الكتب بأسعار أرخص من الخارج ونؤجر أيضًا منها الكتب".
ظلت الكتب رفيقة صالح في رحلته، حتى عندما عمل بحارًا وذهب إلى الإسكندرية ليدخل في العالم الذي صنع جانبًا كبيرًا من إبداعاته حيث يحكي عن تلك الفترة ويقول: "عملت في البحر وأنا ابن الثامنة عشر عامًا، حيث جعلني هذا العالم أشاهد عوالم مختلفة، ولكن ظلت القراءة رفيقي، وبدأت من هنا الكتابة حيث كنت أقوم بعمل ملخص لـ ٨ كتب عالمية قرأتها، وبعدها قمت بكتابة مذكراتي، ولكنني شعرت أنني بحاجة لأن أوسع هذا العالم، لاسيما أن البحر جعلني أشاهد الكثير من البشر من أماكن مختلفة، فقمت بكتابة خواطر".
كانت أولى روايات صالح مرسي الطويلة تحمل اسم "زقاق سيد البلطي" ويحكي عن كواليس كتابتها في لقاء تلفزيوني سابق: "كنت أكتب قبلها قصصًا، وقدمتها قبل أن تكون رواية على قصتين في إحدى المجلات، وعندما قرأها الأديب الكبير يوسف إدريس أرسل لي بريدًا قال لي أريدها ملحمة واحدة فكتبتها رواية.
إبداعات هذا الكاتب النادر لم تتوقف عند رصد عالم البحار وتجاربه الخاصة، بل قرر أن يكتشف عالمًا جديدًا فدخل عالم الجاسوسية فهو صاحب "رأفت الهجان، والحفار، ودموع في عيون وقحة" وغيرها من الأعمال التي مازالت خالدة في وجدان الفن المصري حيث يقول: "وجدت في هذا العالم شاعرية عظيمة فهو قمة الوطنية والفداء من أجل الوطن، ويشرفني أن أكتب عن هذا العالم".
ويكمل قائلًا: "أحببت بهذه الكتابات أن أضفي شيئًا جديدًا للرواية، وأحببت حينما قدمت رأفت الهجان والحفار أن أسافر وأقرأ كتبًا عن الجاسوسية، وأستمع للكثير من الحكايات التي نسجت منها ما خرج على الشاشة، ولا أنسى في آخر ورقة من رأفت الهجان دخلت علي زوجتي ووجدتني أبكي بشدة لحبي لتلك الشخصيات ولحجم التضحية الكبيرة التي قدموها من أجل الوطن".
رغم تألق صالح مرسي في كتابة أعمال الجاسوسية حتى أصبح رائدًا في هذا المجال، إلا أنه أحب أن يعود إلى ملهمه الأول وهو البحر، وقدم السندباد البحري ويقول عنها: "حاولت أن أقدم للناس عالم ألف ليلة وليلة الخاص بي، حيث ذهبت لدول كثيرة ولكل دولة هويتها فأحببت أن أستفيد من علاقاتي بالبشر وأكتب، وأنا ابن البحر بدأت منه وإليه أعود".
وفي صباح 24 أغسطس عام 1996، رحل قبطان سفينة الإبداع إثر هبوط حاد في الدورة الدموية، ليرحل تاركًا أعماله مخلّدة في الوطن العربي، وحكايات التي لا تنتهي وشخصياته التي مازالت تحكي عن تفاصيله التي نسجها داخلهم.