لم يكن المصري داود عبد السيد مخرجًا تقليديًا يصنع أفلامًا ليحكي حكايات مكتملة، بل كان فنانًا يرى السينما فعل تفكير قبل أن تكون وسيلة سرد، برحيله فقدت السينما المصرية أحد أهم العقول التي أعادت تعريف علاقتها بالواقع والإنسان، فهو مخرج ظل يشك في نفسه منذ بداياته، ويتساءل بصدق.. هل يمكن أن أصنع سينما مختلفة؟.. فحوّل هذا الشك إلى منهج فني، وإلى أسلوب متفرد صنع له جذورًا واضحة خارج السائد والمألوف.
آمن داود عبد السيد بأن صوت الإنسان العادي هو الأصدق، وبأن السينما يجب أن تمنح الواقع فرصة للكلام دون وصاية أو تعليق متعالٍ، فجاءت أفلامه مساحات مفتوحة للتأمل، تمزج بين الواقعي والخيالي، وتدفع المشاهد، كما كان يقول، إلى التفكير في حياته وما يعيشه. ولهذا استحق أن يراه النقاد فنانًا لا يُضاف إلى السينما، بل يولد داخلها ويعيد تشكيلها من جديد.
وصفه الناقد الراحل سمير فريد بقوله "داود عبد السيد فنان يولد تحت إمبراطورية"، وليس مجرد مخرج يضاف إلى قائمة المخرجين الموهوبين، بينما رأه الناقد سامي السلاموني يمثل سياسة إحلال كاملة من الشعب إلى مصر، معتبرًا أن السذاجة البالغة في السينما المصرية هي الاعتقاد بأن السينما المطلوبة إما أن تُصنع أو لا تُصنع مطلقًا.
عالم داود عبد السيد السينمائي، وتجربته توقفت عند تسعة أفلام فقط، لكنها حملت تأثيرًا عميقًا في الوجدان السينمائي المصري والعربي.
تجربة وخصوصية نادرة
بحسب الناقد الفني المصري طارق الشناوي اتسمت تجربة المخرج الراحل داود عبد السيد بخصوصية نادرة، إذ حملت أفلامه بصمة إنسانية واضحة لا تخطئها العين، مشيرًا إلى أن رصيده الذي يضم تسعة أفلام روائية فقط كان كافيًا ليضعه في مصاف كبار المخرجين في تاريخ السينما المصرية، لما عكسته هذه الأعمال من وعي فني ورؤية شخصية متفردة.
وأوضح "الشناوي" أن قلة إنتاج داود عبد السيد لم تكن يومًا دليلًا على محدودية عطائه، بل جاءت على العكس تمامًا، إذ اتسمت أفلامه بالكثافة الدلالية والعمق الإنساني، وكانت قادرة على التغلغل في وجدان المشاهد.
وأضاف أن المقربين منه اعتادوا وصفه بـ"حكيم الجيل"، نظرًا لهدوئه الشديد وتأنيه في التفكير، وحرصه الدائم على ألا يبدأ التصوير إلا بعد أن تتشكل ملامح الفيلم كاملة في ذهنه، لقطة بلقطة.
وأشار "الشناوي" إلى أن تأخر داود عبد السيد في خوض تجربة السينما الروائية لم يكن عائقًا، بل منحه مساحة أوسع للتأمل والنضج، وهو ما انعكس بوضوح على أعماله الأولى، وفي مقدمتها فيلم "الصعاليك" عام 1985، الذي قدم من خلاله قراءة مختلفة لمرحلة "سينما الانفتاح"، متجاوزًا السائد آنذاك ليطرح رؤيته الخاصة بعمق فكري وإنساني.
واعتبر "الشناوي" أن فيلم "الكيت كات" يظل الأكثر جماهيرية في مسيرة داود عبد السيد، لما يحمله من مزيج فريد بين خفة الروح وصدق المشاعر واستدعاء الذاكرة، مؤكدًا أن المخرج تعامل مع العمل كقائد أوركسترا يدير عناصره بدقة وحساسية عالية. وأضاف أن معالجة رواية "مالك الحزين" للكاتب إبراهيم أصلان جسدت قناعة داود عبد السيد الراسخة بأن الفن الحقيقي لا ينفصل عن صاحبه، وأن المبدع يقدم ذاته من خلال عمله.
فئة نادرة من المخرجين
من جانبه، قال الناقد كمال رمزي إن داود عبد السيد ينتمي إلى فئة نادرة من المخرجين الذين لا يكتفون بسرد الحكاية، بل يحولون الفيلم إلى مساحة للتأمل وطرح الأسئلة الكبرى. وأوضح أن سينماه تمتزج فيها الواقعية بالرمز، ويتحول اليومي والعادي إلى مدخل لفهم أعمق لتناقضات المجتمع وصراعاته الداخلية.
وأضاف "رمزي" أن أفلام داود عبد السيد لا تُشاهد فقط، بل تُعاش وتُفكك، لأنها تعتمد على الحيرة بوصفها أداة فنية، وعلى الدهشة كوسيلة لاكتشاف المعنى. وأشار إلى قدرته على توظيف الرموز والشخصيات الهامشية لصناعة مرايا تعكس علاقتنا بالفن والحرية، مستشهدًا بفيلم "قدرات غير عادية"، الذي يتحول فيه السيرك إلى استعارة مكثفة للحياة، حيث لا تحمي الموهبة أصحابها من القهر.
واختتم كمال رمزي حديثه بالتأكيد على أن داود عبد السيد راهن دائمًا على الإنسان لا على المعجزة، فالقوة الحقيقية في أفلامه ليست خارقة، بل كامنة في القدرة على الحب والتسامح وقبول الآخر. وأوضح أن نهايات أفلامه التأملية، وعودة السيرك في "قدرات غير عادية"، تمثل إعلانًا واضحًا بأن الحياة، مهما اشتدت قسوتها، تظل باقية وتستحق أن تُعاش، وأن الفن أحد أنقى أشكال مقاومتها.
علامة فارقة لا تُنسى
بدوره، أكد الناقد السينمائي محمود قاسم أن داود عبد السيد يمثل حالة فريدة في السينما المصرية، فعلى الرغم من قلة أعماله، فإن كل فيلم قدمه كان كافيًا ليترك بصمة واضحة في تاريخ الصناعة السينمائية، ويصبح مرجعًا مهمًا لكل من يسعى لفهم عمق التجربة السينمائية.
وأشار "قاسم" إلى أن غياب داود عبد السيد عن الإخراج خلال سنواته الأخيرة شكّل خسارة حقيقية للسينما المصرية، نظرًا لما كان يحمله من رؤية متكاملة وأسلوب متميز في تناول القضايا الاجتماعية والإنسانية. وأضاف أن أفلامه، استطاعت الوصول إلى شرائح مختلفة من الجمهور بأسلوب سلس وبعيد عن التعقيد، ما جعلها عميقة الأثر وذات صدى طويل، إذ نجح في تحويل القضايا المعقدة إلى أحداث متاحة للفهم مع الحفاظ على القيمة الفنية العالية.
ولفت "قاسم" إلى قدرة داود عبد السيد الاستثنائية على إبراز الممثلين في أدوار غير مألوفة، واستخراج أفضل ما لديهم من طاقات إبداعية، كما ظهر في "الكيت كات" مع محمود عبد العزيز، و"مواطن ومخبر وحرامي" مع شعبان عبد الرحيم، و"رسائل البحر" مع آسر ياسين. واختتم مؤكدًا أن داود عبد السيد سيظل علامة فارقة وأيقونة لا يمكن تجاوزها في تاريخ السينما المصرية، بإرث فني يحمل قيمة إنسانية وفكرية لا تضاهى.