الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

داود عبدالسيد.. "حكيم" السينما المصرية

  • مشاركة :
post-title
المخرج المصري داود عبدالسيد

القاهرة الإخبارية - إيمان بسطاوي

لم يكن داود عبدالسيد مجرد مخرج يصنع أفلامًا، بل صاحب مشروع فكري وسينمائي متكامل، يرى في الشاشة مساحة للتأمل وطرح الأسئلة أكثر من كونها أداة للترفيه العابر، وبرحيله عن عمر ناهز 79 عامًا، تفقد السينما المصرية أحد أكثر صناعها عمقًا وهدوءًا وصدقًا، مخرجًا آمن بأن الفيلم يمكن أن يكون مرآة للإنسان، وللمجتمع، وللأسئلة الكبرى التي لا إجابات نهائية لها.

لم يكن حلمه في طفولته أن يصبح مخرجًا، بل كان يتطلع إلى العمل بالصحافة، قبل أن تقوده الصدفة والشغف إلى عالم السينما، إذ وجد فيها مساحة أوسع للتعبير وطرح الأسئلة. 

في بداياته، عمل مساعد مخرج في عدد من الأفلام البارزة، من بينها "الأرض" ليوسف شاهين، و"الرجل الذي فقد ظله" لكمال الشيخ، و"أوهام الحب" لممدوح شكري، وهي تجارب شكّلت وعيه السينمائي وأسهمت في بلورة لغته البصرية الهادئة والمتأملة.

بدأ داود عبدالسيد مسيرته الإخراجية من السينما التسجيلية، بدافع شغفه برصد المجتمع والمدينة والناس، فقدم مجموعة من الأفلام التسجيلية ذات الطابع الاجتماعي، أبرزها "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" عام 1976، و"العمل في الحقل" عام 1979، و"عن الناس والأنبياء والفنانين" عام 1980. 

وعكست هذه الأعمال اهتمامه المبكر بالقضايا الإنسانية والتعليمية والاجتماعية، ونظرته العميقة إلى التفاصيل اليومية التي تشكّل جوهر المجتمع.

انتقل بعد ذلك إلى السينما الروائية، ليقدّم أفلامًا أصبحت علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية، من بينها "الصعاليك"، و"البحث عن سيد مرزوق"، و"الكيت كات"، و"أرض الخوف"، و"مواطن ومخبر وحرامي"، و"رسائل البحر"، وصولًا إلى فيلمه الأخير "قدرات غير عادية" عام 2014.

تميّزت هذه الأعمال بأسلوبه الواقعي الهادئ، وبانشغاله الدائم بأسئلة الهوية، والحرية، والعزلة، والتحولات الاجتماعية، مع اهتمام خاص بالشخصيات العادية وصراعاتها الداخلية.

قبل أكثر من أربعة عقود، بدأ داود عبدالسيد رحلته الإخراجية بفيلم تسجيلي يحمل عنوان "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم"، وهو أول أعماله السينمائية، قبل أن يتجه لاحقًا إلى إخراج الأفلام الروائية الطويلة التي رسّخت اسمه كأحد أبرز مخرجي جيله.

وحظي هذا الفيلم بقرار من المركز القومي للسينما بترميمه، باعتباره واحدًا من كلاسيكيات السينما التسجيلية المصرية، في خطوة تعكس قيمة العمل وأهميته التاريخية.

وعن هذا القرار، عبّر داوود عبدالسيد في حوار سابق لموقع "القاهرة الإخبارية" عن سعادته بترميم الفيلم، معتبرًا أن ترميم الأعمال السينمائية القديمة يشبه الحفاظ على الآثار من الاندثار، 

وأكد أن السينما تمثل أرشيفًا حيًا لذاكرة المصريين، وأن الحفاظ عليها ضرورة ثقافية لا ترتبط بمناسبات أو احتفالات عابرة، بل يجب أن تكون سياسة عامة تشمل كل الأفلام التي تحتاج إلى إنقاذ بصري وفني، كما شدد على أهمية عرض هذه الأعمال للجمهور عبر البرامج والتليفزيون، حتى تظل حاضرة في الوعي العام ولا تبقى حبيسة الأرشيف.

فيلم "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم"، الصادر عام 1976، تناول قضية التعليم داخل قرية تؤمن بأهميته كمدخل أساسي للتغيير الاجتماعي، ورغم حصوله على عدة جوائز مهمة، من بينها جائزة التحكيم الخاصة في مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة عام 1977، وجائزة اتحاد النقاد المصريين مناصفة مع فيلم "طائر النورس" للمخرج خيري بشارة، فإن داوود عبد السيد أقرّ بأن ذاكرته لم تعد تحتفظ بتفاصيله الدقيقة بسبب مرور الزمن، وهو ما يعكس تواضعه الدائم ونظرته للأعمال باعتبارها مراحل وليست محطات للتمجيد.

ورغم انشغاله المبكر بالسينما التسجيلية، فإن انتقاله إلى الأفلام الروائية لم يكن قفزة مفاجئة، بل امتداد طبيعي لشغفه برصد المجتمع والمدينة والإنسان، فقدم أعمالًا روائية صنعت فارقًا في تاريخ السينما المصرية، من بينها "الصعاليك"، و"البحث عن سيد مرزوق"، و"الكيت كات"، و"أرض الخوف"، و"مواطن ومخبر وحرامي"، و"رسائل البحر"، وصولًا إلى "قدرات غير عادية" عام 2015، وهو آخر أفلامه.

تميّزت أفلام داود عبدالسيد بأسلوب واقعي هادئ، لا يعتمد على الصخب أو المباشرة، بل على التأمل وبناء الشخصيات بعناية، مع انشغال واضح بقضايا الهوية والحداثة والتحولات الاجتماعية.

وكان فيلم "الكيت كات" عام 1991 علامة فارقة في مسيرته، إذ حقق شهرة واسعة وحصد جوائز عديدة، ونجح في تقديم شخصية شعبية بسيطة محملة بدلالات إنسانية وفلسفية عميقة، بينما عكس "البحث عن سيد مرزوق" اهتمامه بالشخصيات العادية وصراعاتها اليومية، في سرد يمزج بين الواقعي والرمزي.

وفي آخر حواراته مع موقع "القاهرة الإخبارية"، كان داود عبد السيد صريحًا في حديثه عن علاقته بالجمهور، مؤكدًا أن أفلامه تستهدف شريحة من الشباب والمتعلمين الباحثين عن سينما مختلفة، بعيدة عن التيمات التقليدية.

 وأوضح أنه أدرك مع الوقت أن أفلامه ليست جماهيرية بالمعنى التجاري، لكنه لم يسعَ يومًا إلى ميزانيات ضخمة، بقدر سعيه لتحقيق رؤيته الفنية ومشروعه السينمائي الخاص.

وعن المشروعات التي لم ترَ النور، اكتفى بالقول إن ما يهمه هو ما قدّمه بالفعل، لا ما لم يُنجز، مؤكدًا أن كل أفلامه قريبة إلى قلبه، وأنه لا يفضّل عملًا على آخر، كما عبّر عن رفضه للألقاب الرنانة، وعلى رأسها لقب "فيلسوف السينما"، معتبرًا أن هذه الأوصاف تجارية ولا تعنيه، مشددًا على أنه لا يرى نفسه مخرجًا بقدر ما هو صانع أفلام يحاول أن يقدّم رؤية صادقة.

وفي حديثه عن تراجع شغفه بالكتابة بعد آخر أفلامه، أرجع داوود عبدالسيد ذلك إلى التغير الكبير في طبيعة الجمهور وسوق السينما، مشيرًا إلى أن ارتفاع أسعار تذاكر السينما غيّر التركيبة الاجتماعية للجمهور، وأن السينما التي كانت تراعي البعد الاجتماعي أصبحت في كثير من الأحيان محصورة في التسلية فقط، وهو ما انعكس على طبيعة الإنتاج ونوع الأفلام المعروضة.