تدخل فرنسا نفقًا مظلمًا من عدم الاستقرار السياسي مع اقتراب التصويت الحاسم، غدًا الثلاثاء، على مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي، في ظل انقسامات حادة تهدد بتكرار سيناريو سقوط حكومة ميشيل بارنييه قبل عام بالضبط على خلفية الأزمة ذاتها، ورغم أكثر من 120 ساعة من النقاشات البرلمانية، يجد رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو نفسه محاصرًا بين وعده بعدم استخدام المادة الدستورية 49.3 والحسابات القاسية للأغلبية البرلمانية التي قد تطيح بمشروعه.
جذور الأزمة
تعود جذور الأزمة إلى التدهور المستمر في موازنة نظام الضمان الاجتماعي الفرنسي، الذي يشمل التأمين الصحي ومعاشات التقاعد والتأمين ضد البطالة، فمع عجز يبلغ 23 مليار يورو متوقع لعام 2025، تسعى الحكومة لتمرير ميزانية تتضمن إجراءات تقشفية وزيادة في الضرائب لسد الفجوة المالية، لكنها اضطرت لتقديم تنازلات كبيرة أبرزها تعليق إصلاح نظام التقاعد، الذي كان يرفع سن التقاعد إلى 64 عامًا.
هذه التنازلات أغضبت اليمين الذي يرى فيها خضوعًا لمطالب اليسار، بينما يصر أقصى اليمين وأقصى اليسار على رفض الميزانية بالكامل، ما يضع الحكومة في مأزق حسابي داخل برلمان مفتت لا يملك فيه أي طرف أغلبية واضحة.
وفي حال فشل تمرير المشروع، يحذّر الخبراء من قفزة العجز إلى أكثر من 30 مليار يورو، مما قد يدفع فرنسا نحو أزمة مالية واقتصادية واجتماعية شاملة.
معادلة مستحيلة
يواجه لوكورنو تحالفًا معقدًا من القوى المعارضة والحليفة على حد سواء، حيث كشفت صحيفة "لوبوان" الفرنسية عن أن حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد بنوابه الـ123 سيصوتون جميعًا ضد المشروع، فيما أعلن نائب الحزب جان فيليب تانجي أنهم "سيكونون حاضرين بأعداد كاملة".
وينضم إليهم حزب فرنسا الأبية اليساري الذي وصف المشروع بـ"ميزانية البؤس" في بيان صدر منتصف نوفمبر الماضي.
لكن الضربة الأقسى جاءت من داخل صفوف الحكومة نفسها، إذ أعلن حزب "هوريزون" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إدوار فيليب، والذي يُعد عادة من أنصار التحالف الرئاسي، رفضه التصويت لصالح النص.
وأوضح الأمين العام للحزب بيير إيف بورنازيل لصحيفة "لا جازيت دو فرانس"، أنه "من المستحيل التصويت على نص يتعارض مع التزاماتنا"، مشيرًا إلى أن قرار حزبه سيتأرجح بين الرفض والامتناع، رغم تأكيده أنهم لا يرغبون في إسقاط الميزانية.
الاستسلام لليسار
في تطور دراماتيكي، شن برونو روتايو، رئيس حزب الجمهوريين اليميني ووزير الداخلية السابق الذي استقال من الحكومة قبل شهرين، هجومًا عنيفًا على المشروع، واصفًا إياه بـ"السطو المالي" بسبب زيادة ضريبة المساهمة الاجتماعية، و"السطو الاجتماعي" على التقاعد، و"السطو الديمقراطي" لأن البلاد في أقصى اليمين سياسيًا بينما الحكومة تتجه يسارًا، وفق ما نقلته صحيفة "ليبراسيون".
ودعا روتايو نواب حزبه إلى التصويت ضد المشروع أو الامتناع، معتبرًا أن "هذا النص غير قابل للتصويت" وأن الحكومة "استسلمت لليسار وستفكك ميزانيتها الخاصة".
وانضم إلى صفوف المعارضين، رئيس الوزراء السابق ميشيل بارنييه نفسه، الذي سقطت حكومته العام الماضي على خلفية أزمة مماثلة، إذ أعلن على قناة TF1 أنه سيمتنع عن التصويت "مثل عدد كبير من البرلمانيين"، محذرًا من "ابتزاز الحزب الاشتراكي" ومؤكدًا أنه "لا يمكن التضحية بالأجيال القادمة" بسبب التنازلات المقدمة حول إصلاح نظام التقاعد الذي يتضمن المشروع تعليقه.
الاشتراكيون يمدون حبل النجاة
في المقابل، يشكل الحزب الاشتراكي شريان الحياة الوحيد للوكورنو، إذ أعلن زعيمه أوليفييه فور على قناة "بي اف ام تي في" أنه سيدعو نواب حزبه للتصويت بـ"نعم"، واصفًا المشروع بأنه "ميزانية تسوية مقبولة".
وأشاد فور بالتزام رئيس الوزراء قائلًا: "لقد تعهَّد بتعليق إصلاح التقاعد وأظهر مصداقية طوال النقاشات، وأتمنى أن نكون بدورنا موثوقين"، منتقدًا من أسماهم "مهندسي الفوضى" في اليمين.
كما أكد جابرييل أتال، رئيس الوزراء الأسبق، على إذاعة فرانس إنتر، أن "البلاد بحاجة إلى ميزانية ونبذل كل جهد لإقرارها".
أما حزب الخضر فيبقى في موقف الترقب، حيث تحاول الحكومة استمالته عبر تقديم تنازل أخير يرفع نفقات التأمين الصحي إلى 3% بدلًا من 2%، وفق ما ذكرته صحيفة "لوبوان".
لكن زعيمة نواب الحزب سيريل شاتلان أكدت، لوكالة فرانس برس، مساء الأحد، أن حزبها "لم يحصل على أي ضمانات حتى الآن"، مضيفة أن هذا التنازل "سيكون أحد العناصر المهمة في قرارنا" إذا تم إقراره.
كارثة اقتصادية واجتماعية
ترفع الحكومة منسوب التحذيرات لإقناع المترددين، إذ أكد وزير العمل جان بيير فاراندو، على قناة فرانس 3، أن رفض المشروع "سيفتح أزمة سياسية وبالتالي أزمة اقتصادية ثم أزمة اجتماعية"، محملًا من يتسبب بهذا السيناريو المسؤولية الكاملة، واصفًا إياهم بـ"أحزاب الفوضى المثلثة".
وكشفت مذكرة من وزارة الصحة أُرسلت للنواب، يوم الخميس، عن أن غياب ميزانية الضمان الاجتماعي سيرفع العجز "إلى ما يتجاوز 30 مليار يورو" في 2026 مقابل 23 مليار يورو المتوقعة لعام 2025.
وحذّرت وزيرة الحسابات العامة أميلي دو مونشالان من أن فشل المشروع يعني "عدم وجود ميزانية قبل مارس أو أبريل"، مشيرة إلى ضرورة إعادة الإجراءات من البداية.
وفي حين استبعدت المتحدثة باسم الحكومة مود بريجون في حديث لصحيفة "تريبون" يوم الأحد استقالة رئيس الوزراء في حال الرفض، معتبرة أن ذلك "سيضيف أزمة فوق الأزمة"، أكد نائب التجمع الوطني جان فيليب تانجي أنه "لا يرى كيف يمكن للوكورنو ألا يستقيل" إذا فشل التصويت.
مصير معلق
يبقى مصير المشروع معلقًا بهامش ضئيل جدًا من الأصوات، إذ نجح لوكورنو الجمعة الماضية في تمرير الشق المتعلق بالإيرادات بفضل غياب كتل معارضة كبيرة من الجمعية، لكن التصويت على الشق الخاص بالنفقات ثم على المشروع بأكمله يبدو أكثر صعوبة.
وأقرَّت وزيرة رفضت الكشف عن هويتها لوكالة فرانس برس أن "التصويت النهائي سيكون صعبًا للغاية" دون اللجوء للمادة 49.3، التي يرفض لوكورنو استخدامها؛ حفاظًا على كلمته.
وكما قال النائب بيير كازنوف من حزب النهضة: "أثمِّن ما في السياسة هو احترام الكلمة المُعطاة".