شهدت تفاعلات الشرق الأوسط العديد من التحولات خلال عام 2025 والتى من المحتمل أن تمتد آثارها على مجمل حركة الفاعلين والمؤثرين إقليميًا ودوليًا في مسار الشرق الأوسط خلال عام 2026، وهو ما سينعكس بشكل مؤثر على مستقبل التوازن الدولي فى ظل سعي العديد من الأطراف التي تشكِّل حركتها مجمل تلك التفاعلات للهيمنة والنفوذ وفرض مشروعاتها على أرض الواقع في ظل ممانعة من قبل دول تشكِّل حركتها ركائز ثابتة للحفاظ على أمن واستقرار الإقليم الذي يرتبط بالتوازن الدولي القائم على الحفاظ على القواعد والحيلولة دون الدخول في دوامة فوضى لا يُعرف مداها. من هذا المنطلق ربما مثَّلت قمة شرم الشيخ للسلام نقطة تحول في تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، وهي القمة التي عُقدت في 13 أكتوبر 2025 لإنهاء الحرب في غزة، وتعزيز جهود إحلال السلام في الشرق الأوسط، وذلك برئاسة مشتركة للرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمشاركة أكثر من 31 من قادة الدول والمنظمات الإقليمية والدولية. وهو الأمر الذي يعني أن الإقليم يحتاج إلى التهدئة لا إلى التصعيد بين أطرافه.
وتجلى ذلك التوجه في إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وقف الحرب التي نشبت بين إسرائيل وإيران في الفترة من 13 إلى 24 يونيو 2025، وامتدت لما يقرب من 12 يومًا بقيام إسرائيل باستهداف المنشآت الإيرانية الإستراتيجية، منها النووية والعسكرية والاقتصادية، و كذلك استهداف عدد من علماء الذرة والقيادات العسكرية، في المقابل ردَّت إيران باستهداف عدة مدن إسرائيلية ومواقع إستراتيجية فى تل أبيب وحيفا، وبئر السبع وغيرها. ومع إعلان طرفي الصراع انتصار كل منهما فى تلك الحرب، بدا التساؤل المركزي يدور حول ما إذا كانت نتائج تلك الحرب ستؤدي إلى تغيُّر موازين القوى في إقليم الشرق الأوسط، أم أن نتائج المواجهات بين الطرفين، وحتى بعد دخول الولايات المتحدة، لمساندة إسرائيل واستهداف ثلاث منشآت نووية إيرانية، هي: فوردو ونطنز وأصفهان، لا زالت قيد التقييم، وأن تغيير موازين القوى في إقليم الشرق الأوسط يحتاج لعقود متتالية؛ في ظل التداخل الإقليمي والدولي مع تفاعلات المشهد المعقد بمفرداته المتشابكة.
تفاعلات ممتدة
يمكن الإشارة إلى التفاعلات الممتدة للأطراف المعنية بتوازن القوى في الشرق الأوسط خلال عام 2026 على النحو التالي:
(*) الولايات المتحدة الأمريكية: يشكِّل الانخراط الأمريكي في تفاعلات الشرق الأوسط أحد المحددات الحاكمة لمسار تلك التفاعلات خلال عام 2026، لذلك يكتسب اتفاق السلام بشأن غزة وما نصَّت عليه الوثيقة التي وقعتها الدول الضامنة بشرم الشيخ في أكتوبر 2025، وهى الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر وتركيا، أهميتها من ترجمة خطة ترامب للسلام على أرض الواقع، من خلال تطبيق مراحلها المختلفة، لا سيما وأن تلك الوثيقة وما نصَّت عليه من أن الدول الموقِّعة ترحب بالالتزام التاريخي الحقيقي والتنفيذ من قبل جميع الأطراف لاتفاق السلام الذي تم التوصل إليه برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي وضع حدًا لأكثر من عامين من المعاناة العميقة والخسائر، ويفتح فصلًا جديدًا للمنطقة عنوانه الأمل والأمن والرؤية المشتركة للسلام والازدهار. وربما يجسد تصويت مجلس الأمن بالموافقة على خطة ترامب للسلام في غزة، في 18 نوفمبر 2025، التزامًا دوليًا يسهم في مساندة تطبيق الخطة على أرض الواقع. ووهو ما جعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يصف ذلك التصويت باللحظة التاريخية، في حين اعتبرته حركة حماس نوعًا من الوصاية الدولية. كما رحبت السلطة الوطنية الفلسطينية بتصويت مجلس الأمن لصالح الخطة وحثَّت على تطبيقها الفوري على أرض الواقع. على الجانب الآخر من المواجهات الإسرائيلية الإيرانية، فقد أدَّت تلك الحرب إلى سقوط نظرية الردع بين إسرائيل وإيران؛ بعد أن أصبحت المواجهات مباشرة بينهما وبعيدة عن الوكلاء الذين تم توظيفهم لإدارة الصراع الإسرائيلي الإيراني، وبدا أن المتغير الجوهري في مسار ذلك الصراع هو دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب، في 22 يونيو 2025، وقبل إعلان ترامب توقفها بيومين، وهو ما سيكون له تأثيره المباشر على مجمل تفاعلات الإقليم بعد أن عكست الحرب الانخراط الأمريكي في تفاعلات الإقليم لضمان أمن إسرائيل حليفها الإستراتيجى، وأن الولايات المتحدة لا زالت هي القوة القادرة على حسم صراعات الإقليم. لذلك من المحتمل أن تسعى الولايات المتحدة للضغط على إيران لوقف برنامجها النووي، وذلك من خلال تقديم حزمة من الحوافز الاقتصادية والمالية في حال استئناف المفاوضات بين الطرفين.
(*) إسرائيل: على الرغم من سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى توظيف نتائج حروبه في إقليم الشرق الأوسط على أنها تشكِّل نجاحات؛ سعيًا منه لتنفيذ مشروعه الاستيطاني في الإقليم، فإن المتابع لمآلات تلك المواجهات سواء في غزة أو في إيران أو مع الحوثيين في اليمن، يكتشف بجلاء تراجع هذا المشروع الاستيطاني لإسرائيل لا تمدده. ففي غزة أجبرت المقاومة إسرائيل على الانصياع لخطة السلام التي طرحها ترامب بعد أن فشل نتنياهو بكل عملياته التي دمرت قطاع غزة وحولته إلى ركام في تحقيق أى من أهدافه سواء ما يتعلق بتحرير الأسرى الإسرائيليين، أو ضمان أمن إسرائيل من خلال قضم أراضٍ من قطاع غزة، أو ما يتعلق بتهجير الفلسطينيين من غزة. ولا شك فإن صلابة الموقف المصري في رفض التهجير كان المحدد الحاسم لانصياع الإرادة الدولية لحق الفلسطينيين في البقاء في أرضهم ومنع تهجيرهم، وحقهم أيضًا في إقامة دولتهم المستقلة. وهو ما تجسد في موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على حل الدولتين في سبتمبر 2025 بأغلبية ساحقة (142 دولة مؤيدة) ورفض 10 دول، وامتناع 12 دولة عن التصويت، الذي لاقى مساندة من قوى أوروبية لها ثقلها مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا. على الجانب الآخر من مواجهات إسرائيل في الإقليم أفرزت الحرب الإسرائيلية الإيرانية حقيقة مؤكدة، وهي: عدم قدرة إسرائيل على حسم أي من الصراعات التي تكون طرف فيها في إقليم الشرق الأوسط من دون مساندة أمريكية. وهو الأمر الذي كشفته بجلاء مواجهاتها مع إيران، كما عكست تلك الحرب أيضًا إخفاق سعي نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل؛ بعد أن شن العديد من المواجهات على جبهات متعددة فى غزة، واليمن، ولبنان، وسوريا. وهي المواجهات التي كشفت أيضًا عن عدم تخلي إسرائيل عن ميولها التوسعية في الإقليم، بما جعل شعوب الإقليم تشكك في جدوى المقاربات السلمية التي تطرحها.
(*) إيران: على الرغم من الإنكشاف الإستراتيجي الإيراني أمام العمليات الإسرائيلية ضد إيران في يونيو 2025، سواء ما يتعلق باستهداف منشآت وبنية وقادة عسكريين، وعلماء للذرة، إلا أن عنصر المفاجأه أجدد عوامل ذلك الخلل تمكنت من استيعاب التوازن، ونجحت في الصمود أمام الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت العديد من المواقع الإستراتيجية الإيرانية، وامتلكت القدرات الذاتية على استهداف عمق إسرائيل عبر صواريخها الباليستية. وربما كانت الضربات النوعية الإيرانية ضد إسرائيل أحد العوامل التي أسهمت فى الانخراط الأمريكي في الحرب، للوصول إلى نقطة توازن اقنعت طرفي الصراع بضرورة إنهائه. غير أن هناك العديد من التحليلات التى تتنبأ باحتمالية تجدد المواجهات الإسرائيلية الإيرانية ، بعد نجاح إسرائيل في تحييد أذرع إيران فى دول المنطقة ففي لبنان من خلال عملياتها النوعية ضد حزب الله وتصفيتها لعدد كبير من قيادات الصف الأول من الحزب الذى بدا يفقد حاضنته الشعبية، واخفاقه فى حماية نفسه أو ردع العدو اذا استهدف لبنان كما كان يردد قادته في تبرير امتلاكهم للسلاح، وكذلك ربط إسرائيل لانسحابها من الجنوب اللبناني بنزع سلاح حزب الله على خلفية الاتفاق الذى رعته الولايات المتحدة الأمريكية نوفمبر 2024. وفي اليمن قامت بتنفيذ العديد من العمليات ضد الحوثيين. وساندتها الولايات المتحدة في ذلك التوجه من خلال تشكيل تحالف دولي بحري أطلقت عليه حارس الازدهار في ديسمبر 2023 للتصدى لهجمات الحوثيين ضد السفن التجارية من إسرائيل وإليها عبر البحر الأحمر.
(*) الدول العربية: تمثل أراضى الدول العربية أهدافًا للقوى الرامية للهيمنة على مستقبل تفاعلات إقليم الشرق الأوسط سواء بقضم أراضٍ عربية أو من خلال نقل مواجهات تلك القوى الراغبة في التغيير إلى أراضٍ عربية. وقد جسد ذلك الواقع المواجهات الأمريكية الإيرانية على أراضٍ عراقية، كما كانت التدخلات التركية في سوريا والعراق نموذجًا لذلك الواقع. وتمحورت مواجهات إسرائيل فى غزة وسوريا واليمن ولبنان باستهداف أراضٍ عربية بالأساس وكانت مواجهاتها مع أذرع إيران في عدد من الدول العربية أيضًا، وهو ما جعل نتنياهو يتحدث عن مواجهاته على سبع جبهات. وإذا كان الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين شكَّل المحدد الحاسم الذي تبنته مبادرة ترامب للسلام في غزة، فإن الموقف العربي من المواجهات الإسرائيلية الإيرانية مر بمحطتين مفصليتين الأولى، هي إدانة الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية والمطالبة باحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، ورفض أي ممارسات تمثِّل خرقًا للقانون الدولي ومبادئ ومقاصد الأمم المتحدة، وتسوية النزاعات بالسبل السلمية. فيما جاءت المحطة الثانية لترتبط بإدانة الدول العربية للعدوان الإيراني على قطر بعد أن قامت إيران بشن هجوم على قاعدة العديد في قطر ردًا على هجوم الولايات المتحدة على منشآت إيران النووية، حيث أعربت الدول العربية عن استنكارها للهجوم الإيراني واعتبرته انتهاكًا لسيادتها وتهديدًا لسلامة أراضيها وخرقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. لذلك من المرجح أن يستمر الموقف العربي خلال 2026؛ في محاولة لتحقيق التوازن ما بين الحفاظ على مقومات الأمن القومي العربي من خلال رفض تهجير الفلسطينيين أو تصفية القضية الفلسطينية؛ باعتبارها قضية العرب الأولي، ومطالبة الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لاستكمال مراحل خطة ترامب للسلام، وما بين ربط التقدم في ذلك المسار بأي نوع من اتفاقات السلام الإبراهيمي المحتمل بين إسرائيل وأي من الدول العربية الراغبة في ذلك.
(*) روسيا والصين: في الوقت الذي طالبت فيه كل من الصين وروسيا بضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة برغم امتناعهما عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على مبادرة ترامب للسلام في غزة نوفمبر 2025، وعدم استخدامها لحق النقض (الفيتو)، بما يعني الموافقة الضمنية على المبادرة، إلا أن العديد من التحليلات انتقدت الموقف الصيني والروسي من الحرب الإسرائيلية الإيرانية، والتي شهدت دعمًا أمريكيًا منقطع النظير للحليف الإستراتيجى لها إسرائيل، حيث اعتقدت تلك التحليلات أن تلك المواجهات تمثل فرصة مواتية لكل من الصين وروسيا لمساندة إيران باعتبارهما يمتلكان شراكة إستراتيجية معها، وبما يتماشى مع تبنيهما لمبدأ التحول نحو التعددية القطبية بدلًا من وجود نظام أحادى القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الأمر الذي لم يتحقق فالموقفان الصيني والروسي جسدا التوازن إزاء تطورات الحرب دون الانحياز لأي من طرفي الصراع، بما عكس التوجه الصيني البعيد عن الانخراط في الصراعات والأزمات الإقليمية والدولية والتركيز على الصعود الاقتصادي برغم تبنيها للوساطة في الشرق الأوسط ما بين السعودية وإيران بما أدى لاستئناف العلاقات بينهما.
(*) الدول الأوروبية: على الرغم من أن الأوروبيين يعتقدون بتهميش ترامب لدورهم سواء في أوكرانيا أو تفاعلات الشرق الأوسط. وهو ما جسده إعلان وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بأن فرنسا لم تشارك في الضربات الأمريكية ضد إيران، ولم تكن على علم مسبق بها، إلا أن هناك تأييدًا ضمنيًا لتلك الضربات، فالمستشار الألماني فردريش ميرز لم يتردد في القول إن إسرائيل تقوم بالعمل القذر بالنيابة عن الأوروبيين، كما أكد الرئيس الفرنسي أن نتائج الضربات الإسرائيلية والأمريكية تصب في خانة الأهداف التي يسعى الأوروبيون لتحقيقها فيما يتعلق بالنووى الإيراني. أما فيما يتعلق بالموقف الأوروبي من الحرب الإسرائيلية على غزة فقد كان أكثر تقدمًا سواء على المستوى الرسمي من خلال تبني العديد من الدول الأوروبية ذات الثقل الدولي لمبدأ حل الدولتين مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا. وعلى المستوى الشعبي فقد شكَّلت المظاهرات التي شهدت الجامعات الأوروبية صحوة أوروبية لمساندة القضية الفلسطينية، ونجح الطلبة فى إعادة السردية الفلسطينية بدلًا من السردية الإسرائيلية التي هيمنت على خطاب الإعلام الغربي. وهو الأمر الذي أكسب السردية الفلسطينية المصداقية لدى قطاع من النخب الطلابية، بما ساعدها على الانتشار لتصحيح الرؤية المغلوطة التي تعتبر أن إسرائيل تقوم بالدفاع الشرعي عن نفسها. لذلك من المحتمل أن يظل الموقف الأوروبي على المستوى الرسمي لا يملك سوى الأمنيات الطيبة للقضية الفلسطينية خلال عام 2026، ويبقى المتغير الأهم فى مسار القضية مرتبطًا بموقف الداخل الفلسطيني وحدود تماسكه، وكذلك موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومدى قدرته على تطبيق مراحل خطته للسلام في غزة وصولًا لحل الدولتين وإن ظل بعيد المنال فى الأمد المنظور.
مستقبل تفاعلات الإقليم
يبدو أن ما انتجته الحروب الإسرائيلية في الإقليم منذ عملية طوفان الأقصي أكتوبر 2023 هو تزايد المخاوف من استمرار حالة اللايقين في مجمل تفاعلات الإقليم خلال عام 2026، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يعاني من مشكلات في بنية تحالفه الذي يتشكَّل قوامه من أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، فضلًا عن وجود أزمات ترتبط بالملاحقات القضائية لنتنياهو جعلت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يتردد في مطالبة الرئيس الإسرائيلي بإصدار عفو عنه. وفي ظل ما تعانيه إيران من مشكلات اقتصادية داخلية وأزمات متتالية منذ الانكشاف الإستراتيجي خلال المواجهات مع إسرائيل في يونيو 2025، تصبح المواجهات المحتملة بينهما خلال عام 2026 هي بمثابة طوق نجاه لكلا النظامين من الانهيار.
مجمل القول، سترتبط التفاعلات المحتملة لإقليم الشرق الأوسط خلال 2026 ومدى تغيير موازين القوى الإقليمية، بمدى قدرة مشروعات تلك القوى على أن تجد طريقها على أرض الواقع، وهو التحدي الذي يمثله مدى مناعة دول الإقليم في تقبل تلك المشروعات، وحدود نجاحها في توظيف قدراتها الاقتصادية وثقلها السكاني والعسكري في معادلات القوة والنفوذ بما يحول دون تقويض الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، ويسهم في استقراره ويحول دون إحداث فوضى لا يُعرف مداها.