لم تكن فايزة أحمد مجرد مطربة تمتلك صوتًا قويًا وحضورًا رقراقًا، لكنها حالة فنية وإنسانية نادرة، تجمع بين الرقة والصلابة، وبين الشجن والقوة، وبين الطموح الجارف والملامح الهادئة التي تخفي وراءها صراعًا طويلًا مع الحياة.
ولدت لتغني، وغنّت لتبقى، فلم تستطع الظروف كسرها، ولم يقف الزمن في وجه صوتها الذي خرج من دمشق ليحمل دفء الشرق كله، ثم يحلّق عاليًا في سماء القاهرة، قبل أن يرسخ اسمه في ذاكرة الفن العربي كواحد من أكثر الأصوات صدقًا وخلودًا.
الطفولة والبدايات
وُلدت فايزة أحمد في مثل هذا اليوم من عام 1934 في ظروف عائلية محافِظة، ما جعل حلم الفن بالنسبة لها أشبه بمغامرة محفوفة بالموانع، وتنقلت بين بيروت ودمشق منذ طفولتها، لتجد نفسها منجذبة إلى عالم الغناء رغم اعتراض والدها الصارم، الذي كان يمنعها بشدة من دخول الوسط الفني، لكن شخصيتها القوية منذ الصغر دفعتها إلى تحديه.
لم توفق أمام أول لجنة استماع في إذاعة دمشق، فسافرت إلى حلب باحثة عن فرصة أخرى، وهناك نجحت وانتشر صوتها سريعًا، قبل أن تعود إلى دمشق مطربة معتمدة، وتبدأ أولى خطواتها الجادة بعد التدريب على يد الملحن محمد النعامي.
ولادة موهبة لا تعرف الخوف
قدمت فايزة عددًا من الأغنيات باللهجة العراقية في بغداد بعد تعاونها مع الموسيقار رضا علي، قبل أن تتخذ القرار الحاسم بالسفر إلى القاهرة، المدينة التي تصنع النجوم.
كانت شابة في العشرين، لكنها بدت أمام الوسط الفني وكأنها تعرف طريقها جيدًا، قدمها الإذاعي صلاح زكي إلى الإذاعة المصرية، وعُرض صوتها على لجنة الاستماع التي ضمت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وأُعجب بموهبتها، لكنه أشار إلى ضرورة اختيار لون يناسب طبيعتها الصوتية، وكانت تلك النصيحة بداية أهم علاقة موسيقية في حياتها.
الموجي.. الشريك الذي شكّل صوتها
التقت بالموسيقار محمد الموجي، ففهم خامتها ورأى فيها ما لم يره غيره، وبدأ معها مرحلة جديدة من الفن، وصنع لها أعمالًا خالدة أصبحت جزءًا من التراث الموسيقي العربي، منها: "أنا قلبي لك ميال، وياما القمر ع الباب، بيت العز".
كما غنّت من ألحان كمال الطويل وبليغ حمدي ومحمود الشريف، وقدّم لها السنباطي لونًا طربيًا فخمًا، بينما منحها عبدالوهاب روائع لا تزال تُردد حتى اليوم، مثل "ست الحبايب" و"يا غالي عليا" و"قدرت تهجر".
السينما.. حضور قليل لكنه شديد التأثير
ظهرت فايزة في عدد من الأفلام التي حُفرت في ذاكرة الجمهور مثل: تمر حنة، و"أنا وبناتي"، والمليونير الفقير، وامسك حرامي، وعريس مراتي.
لم تكن ممثلة كلاسيكية، لكنها كانت تمتلك حضورًا يخطف الكاميرا، وصوتًا يجعل المشاهد جزءًا من المشهد.
قصة حب لا تُنسى.. فايزة وسلطان
كانت علاقتها بالملحن محمد سلطان واحدة من أجمل قصص الفن العربي، وتزوجا عام 1963، فجمعهما حب كبير وانسجام فني نادر، وقدّم لها سلطان عددًا من أنجح ما غنّت، وبادلته فايزة دعمًا عاطفيًا وإنسانيًا وصفه بأنه كان سبب شهرته وبداياته.
أنجبت منه التوأم طارق وعمر، واستمر زواجهما 17 عامًا وانتهى بطلاق عام 1981، قبل أن يعودا ليكملا حياتهما معًا حتى رحيلها، وظل سلطان وفيًا لها حتى آخر يوم في حياته.
الرحيل.. وصوتٌ لا يموت
رحلت فايزة أحمد في 21 سبتمبر 1982 بعد صراع مع المرض، لكن رحيلها لم يطفئ حضورها، وبقى صوتها نقيًا مثلما خرج أول مرة، وبقيت شخصيتها مثالًا لقوة الإرادة حين تتحول الموهبة إلى قدر.