تواجه أوروبا لحظة حاسمة في تاريخها الحديث، إذ تتزايد مخاوف قادة القارة العجوز من أن الاتحاد الأوروبي بات مُتخلِّفًا عن ركب التنافس الدولي المُحتدم بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، في وقت تُرسم فيه خريطة جديدة للنظام العالمي قائمة على منطق القوة والمصالح المباشرة.
مزاج أوروبي قاتم
كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن المزاج الأوروبي تحول إلى قاتم خلال الأشهر الأخيرة، بعد أن وجدت القارة نفسها مُهمَّشة في صفقات تجارية حاسمة بين واشنطن وبكين خلال الصيف الماضي، إلا أن الصدمة الأكبر جاءت عندما طرح البيت الأبيض خطته لإنهاء الحرب الأوكرانية دون أي تنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، ما دفع الاتحاد الأوروبي لإعداد خطة مُضادة أكثر قبولًا لكييف.
في يوليو الماضي، اضطُرت أوروبا لقبول اتفاق تجاري غير متوازن مع الولايات المتحدة سمح لواشنطن بفرض رسوم جمركية بنسبة 15% دون رد فعل.
وتجاهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب النداءات الأوروبية للضغط على موسكو، واستقبل نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة ألاسكا أغسطس الماضي، قائلًا: "هذا لا علاقة له بأوروبا، أوروبا لن تُملي علي ما أفعل".
كما أظهرت الهدنة المؤقتة بين الرئيس الصيني شي جين بينج وترامب بشأن الصراع التجاري حول المعادن النادرة الحيوية للدفاع والتحول الأخضر الأوروبي، أن القارة لم تعد تتحكم في مصيرها.
دعوات للتغيير الجذري
حذَّرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في خطابها السنوي أمام البرلمان الأوروبي سبتمبر الماضي، من أن "خطوط المعركة لنظام عالمي جديد قائم على القوة تُرسم الآن"، مشددة على ضرورة ظهور "أوروبا جديدة"، فيما حذَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب العام الماضي، من احتمال موت المشروع الأوروبي، قائلًا: "كل شيء يعتمد على الخيارات التي نتخذها وهذه الخيارات يجب أن تُتخذ الآن".
من جانبها، وصفت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن، الوضع الراهن بأنه "الأصعب والأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، بينما أكد الرئيس اللاتفي إدجارس رينكيفيتش أن أوروبا باتت واقعية أخيرًا، موضحًا أنه "لا يمكن تغيير الديناميكيات دون امتلاك قوة حقيقية سياسية أو عسكرية أو دبلوماسية".
خطط دراجي
قدَّم ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، رؤية طموحة كُلِّف بإعدادها العام الماضي لجعل أوروبا أكثر تنافسية.
تدعو خطة دراجي إلى تشكيل مجموعات من الدول لإجراء أبحاث ومشتريات دفاعية مشتركة، وتصميم قواعد موَّحدة تُتيح لشركات التكنولوجيا الأوروبية التوسُّع السريع.
كما يدفع دراجي نحو توحيد استثمارات عمالقة الصناعة الأوروبية في قطاعات إستراتيجية كأشباه الموصلات؛ لاستعادة التفوق التنافسي.
ألمانيا تستعد للمواجهة
تعرضت ألمانيا، المحرك الاقتصادي التقليدي للقارة، لزلزال حقيقي بعد فُقدان ركائز نجاحها الاقتصادي، وهي الغاز الروسي الرخيص، والأسواق الصينية المُزدهرة، والمظلَّة الأمنية الأمريكية، إلا أن برلين استجابت بتخفيف قيود الإنفاق الحكومي، مُخصِصة 580 مليار دولار لبرنامج تسليح يمتد عشر سنوات.
يعتقد نيكو لانج، رئيس الأركان السابق في وزارة الدفاع الألمانية، أن ألمانيا المسلحة إلى جانب جيوش بولندا ودول الشمال والبلطيق المعززة، مع الطبقة الإضافية من الدفاع النووي لبريطانيا وفرنسا، قد تُشكّل تحالفًا قادرًا على وقف التوسع الروسي.
ومن المتوقع أن تنفق المنطقة أكثر من 560 مليار دولار على الدفاع هذا العام، وفق محللي "بيرنشتاين"، أي ضعف ما أنفقته قبل عقد، مع هدف إعادة تسليح يمتد حتى 2030.
عقبات وانقسامات عميقة
رغم الطموحات، تواجه أوروبا تحديات هيكلية مُعقَّدة، إذ إن وزارات الدفاع لن تتخلى بسهولة عن السيطرة على خططها ومشترياتها، كما أن عمالقة الصناعة الأوروبية لن ينتقلوا بسلاسة من المنافسة إلى التعاون.
والأسوأ أن الحاجة للإجماع بين 27 دولة عضو تجعل الاتحاد بطيئًا في مواجهة الظروف المتغيرة سريعًا.
أوضح بيير فيمون، الدبلوماسي الأوروبي والفرنسي السابق، أن "الإطار المؤسسي لبروكسل بأكمله، وأساليبه وعقليته، لم تكن مُصممة على الإطلاق" للتعامل مع الفترة الحالية من "سياسات القوة والمواجهة والمنافسة الشرسة".
الصين تهدد صناعة أوروبا
سعت أوروبا لتجنب المواجهة مع بكين، إلا أن الصين واصلت إغراق الأسواق الأوروبية بواردات رخيصة مع تباطؤ اقتصادها المحلي.
وتفوقت بكين تكنولوجيًا في صناعات حيوية كالسيارات الكهربائية، ما تسبب في خسائر وظيفية كبيرة بألمانيا، بينما تتأرجح واشنطن بين الضغط على أوروبا لفرض رسوم على الصين وإبرام صفقاتها الخاصة مع بكين.
مطرقة أمريكا وسندان الصين
أدرك الأوروبيون متأخرًا أن اعتمادهم على سوقهم المُوحَّدة الضخمة لم يمنحهم النفوذ التجاري المتوقع، إذ أظهرت مفاوضات يوليو التجارية أن الولايات المتحدة ستستخدم النفوذ الأمني على أوروبا للفوز بالصراعات التجارية، بينما تعليقات ترامب الطامعة في جرينلاند، الإقليم الدنماركي ذاتي الحكم، عمَّقت القلق الأوروبي بشأن التزام واشنطن بحلف الناتو.
حذَّر المستشار الألماني فريدريش ميرز، الشهر الماضي، من أن السنوات المقبلة ستحدد "ما إذا كانت أوروبا ستبقى قوة اقتصادية مستقلة أم ستصبح بيدقًا للمراكز الاقتصادية الكبرى في آسيا أو أمريكا".