تشهد الأسواق العالمية والمحلية تقلبات حادة دفعت أسعار الذهب إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، ليتحول معدن الذهب من أداة تقليدية لحفظ القيمة إلى ملاذ إستراتيجي يلجأ إليه المستثمرون في أوقات الأزمات، فقد تداخلت عوامل اقتصادية وجيوسياسية مُعقدة، لتخلق بيئة استثمارية جعلت من الذهب أساس المشهد المالي العالمي.
تأسيسًا على ما سبق يستعرض هذا التحليل أسباب الارتفاعات التاريخية في أسعار الذهب، وتقييم انعكاساتها على الاقتصاديين العالمي والمحلي، مع استشراف مستقبل أسعار الذهب في ظل التحولات الاقتصادية الراهنة.
نظرة تحليلية
يُمكن التعرف على التطورات الحالية في أسواق الذهب من خلال النقاط التالية:
(-) ارتفاع السعر العالمي: شهدت أوقية الذهب ارتفاعًا كبيرًا، خلال الفترة الأخيرة، فوفقًا للشكل (1) ارتفعت أسعارها من 1642.5 دولار 20 أكتوبر 2022 إلى 4361.20 دولار 20 أكتوبر 2025، الأمر الذي يوضح القفزة الكبيرة في أسعار أونصة الذهب، التي تُقدر بنحو 31.10 جرامات، وبالتالي فارتفاع سعر الأونصة يعكس الإقبال العالمي على شراء الذهب.
وعلى الرغم من انخفاض سعر الأونصة إلى 4109.15، 26 أكتوبر 2025، بسبب عمليات جني الأرباح من قبل المستثمرين، فإنه من المُحتمل بدرجة كبيرة ألا تعود إلى نفس المستويات في عامي 2022 و2023، فالطلب على الذهب سيظل في تقلب كبير.
(-) أسعار الذهب المحلية: قفزت أسعار الذهب في مصر بشكل كبير، فكما يوضح الشكل (2) ارتفعت أسعار الذهب عيار 21 من نحو 4865، 4 أكتوبر 2025 إلى 5590، 22 أكتوبر 2025، أي ارتفع بنسبة 14.9% في أقل من شهر، وهو الأمر الذي يُشير إلى الارتفاع الملحوظ في أسعار الذهب في مصر، وعلى الرغم من تراجعها نسبيًا في أوقات معينة إلا أنها تعود إلى الارتفاع مرة أخرى بنسب أكبر.
عوامل دافعة
هناك العديد من العوامل العالمية والمحلية التي تدفع إلى ارتفاع أسعار الذهب، على النحو التالي:
أولًا: العوامل العالمية
(-) شراء البنوك المركزية: بدأت البنوك المركزية العالمية تتجه إلى رفع نسبة الذهب من الاحتياطي الأجنبي، وفقًا لمجلس الذهب العالمي تراكمت لدى البنوك المركزية أكثر من ألف طن من الذهب في كل من الأعوام الثلاثة الماضية، وهو ما يُمثل ارتفاعًا كبيرًا عن المتوسط الذي تراوح بين 400 و500 طن على مدى العقد السابق.
وإضافة إلى ذلك أضافت البنوك المركزية 19 طنًا إضافيًا صافيًا إلى احتياطي الذهب العالمي، أغسطس 2025، مُقارنة بـ11 طنًا في الشهر السابق، وفق بيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي.
وفي سبتمبر، أعلن بنك الشعب الصيني شراء 1.2 طن من الذهب، الإضافة الـ11 له، وبحلول نهاية الربع الثالث، بلغت احتياطيات الصين الرسمية من الذهب 2303 أطنان، أي ما يُعادل 7.7% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، كما أعلن بنك إندونيسيا زيادة في احتياطيات الذهب بمقدار طنين لتصل 80 طنًا، أغسطس 2025، ليُمثل الذهب 5.9% من إجمالي الاحتياطيات.
وفي هذا الإطار؛ أكد البنك الوطني البولندي "NMP"، أنه سيرفع هدفه لحصة الذهب ضمن احتياطاته الدولية من 20% إلى 30%، إذ لا يزال البنك الوطني البولندي المشتري الرئيسي، عام 2025، فقد أضاف 67 طنًا إلى احتياطاته من الذهب منذ بداية العام، وبلغ إجمالي احتياطيات الذهب 515 طنًا بنهاية أغسطس، وهو ما يُمثل 22% من إجمالي الاحتياطيات.
(-) انخفاض سعر الفائدة: توجد علاقة عكسية بين أسعار الفائدة وأسعار الذهب السائدة في السوق، فعندما تُخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة (خاصة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي)، يقل العائد على السندات والأذون الادخارية، فيتجه المستثمرون نحو الذهب كبديل آمن، فعندما تكون أسعار الفائدة أقل من معدلات التضخم، يكون العائد الحقيقي سلبيًا، وبالتالي الاحتفاظ بالذهب (الذي لا يتأثر بالتضخم) يكون أفضل من الاحتفاظ بالدولار.
(-) تراجع الدولار الأمريكي: يُسعر الذهب بالدولار، وبالتالي توجد علاقة عكسية بين الذهب والدولار، أي عندما يضعف الدولار الأمريكي، يصبح الذهب أرخص لحائزي العملات الأخرى، فيزداد الطلب عليه، فكما يوضح الشكل (3) انخفض مؤشر الدولار الأمريكي من 104.43، 22 أكتوبر 2024 إلى 98.89 دولار، 22 أكتوبر 2025، وبمقارنة الشكلين (1 و3) تتضح العلاقة العكسية بين مؤشر الدولار وسعر الذهب، فمع ارتفاع مؤشر الدولار، 23 أكتوبر بنسبة 0.1%، انخفض الذهب بنسبة 0.3%، أي إلى 4082.95 دولار للأوقية (الأونصة).
(-) التوترات الجيوسياسية: يُعد الذهب خيارًا ادخاريًا آمنًا في أوقات الأزمات، ففي عصر الحرب الروسية الأوكرانية والأحداث المتوترة في منطقة الشرق الأوسط والتوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، تسود حالة من عدم اليقين عند الأفراد حول التوقعات المُستقبلية، وبالتالي يتجه المستثمرون من الأصول الخطرة "الأسهم والعملات الرقمية" إلى الأصول الآمنة (ذهب، سندات حكومية).
(-) زيادة صناديق الاستثمار المتداولة: تعمل هذه الصناديق (مثل SPDR Gold Trust) على شراء الذهب الفعلي، لتغطية استثماراتها فعندما يدخل كبار المستثمرين السوق ترتفع الأسعار نتيجة الطلب الكثيف، ومن ناحية أخرى يُعد ارتفاع حيازات صناديق الذهب مؤشرًا مبكرًا على ارتفاعات قادمة في السعر.
وبحلول نهاية الربع الثالث من عام 2025، بلغ إجمالي الأصول المُدارة لصناديق الاستثمار المتداولة في الذهب العالمي 472 مليار دولار أمريكي، أي بنمو 23% على أساس ربع سنوي، كما ارتفعت الحيازات بنسبة 6% إلى 3838 طنًا، وهو ما يوضحه الشكل (4)، والذي يظهر أن صناديق الاستثمار المتداولة شهدت أكبر تدفق شهري لها، سبتمبر 2025، ما أدى إلى أقوى ربع سنوي على الإطلاق بقيمة 26 مليار دولار أمريكي.
ثانيًا: العوامل المحلية
بجانب العوامل العالمية التي تُعتبر المحرك الأساسي لأسعار الذهب في الدول المختلفة، توجد مجموعة من العوامل المحلية التي تقف وراء ارتفاع أسعار الذهب في مصر بوتيرة أسرع من الأسعار العالمية، وهي:
(-) خفض أسعار الفائدة: يترتب على سياسة التيسير النقدي التي يتبعها البنك المركزي المصري في الوقت الحالي، اتجاه المصريين إلى الاستثمار في الذهب كوعاء ادخاري بديل عن الادخار في البنوك، وهو ما يُبرر الإقبال الكبير على شراء الذهب بالرغم من ارتفاع أسعاره؛ بسبب التوقعات الكبيرة للمواطنين حول ارتفاع أسعار الذهب مستقبلًا، ما جعله خيارًا ادخاريًا أفضل.
(-) المضاربة اليومية على السعر: يقوم بعض تجار الذهب بتغيير الأسعار عدة مرات يوميًا، بما يتجاوز التغيير الفعلي في السعر العالمي أو سعر الصرف المحلي، ما يخلق حالة من الارتباك تدفع المستهلكين للشراء، خوفًا من زيادات جديدة، وإضافة إلى ذلك يستغل بعض التجار حالة ارتفاع الطلب على الذهب، فيقوموا بتسعير الجرام على أساس سعر مرتفع للدولار مقارنة بالسوق الفعلية، لتحقيق أرباح إضافية.
سيناريوهان للسوق
يُمكن بلورة سيناريوهين محتملين لمستقبل سوق الذهب من خلال النقاط التالية:
(-) السيناريو الأول (الذهب كملاذ وقائي قوي): من المُحتمل وفقًا لهذا السيناريو أن يستمر الزخم الصعودي وصولًا إلى نطاق متوسط 4300 دولار -5000 دولار للأونصة خلال 6 -18 شهرًا، مع احتمال تصاعد حتى 6000 دولار في حالة صدمة جيوسياسية كبيرة أو تسارع إعطاء الذهب دور احتياطي بديل.
وعلى المستوى المحلي من المتوقع وفقًا لهذا السيناريو أن يستمر سعر الذهب في حالة تقلب ضمن نطاقات ارتفاع وانخفاض محدودة.
ويدعم هذا السيناريو توقعات سياسة التيسير النقدي التي سيتبعها الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي المصري، مع استمرار مشتريات البنوك المركزية (هيكلية وطويلة الأمد) مع تسريع سياسات إلغاء الاعتماد على الدولار من قبل بنوك مركزية كبرى، ما يخلق قاعدة طلب ثابتة تدعم ارتفاع الأسعار.
كما يتوافق هذا السيناريو مع توقعات بنك HSBC بأن تستمر أسعار الذهب في الارتفاع خلال النصف الأول من عام 2026، بفعل المخاطر الجيوسياسية وعدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية وارتفاع الدين العام.
(-) السيناريو الثاني (صعود معتدل ثم استقرار): وفق هذا السيناريو من المتوقع ارتداد أسعار الذهب إلى 3800 دولار - 4200 دولار على المدى المتوسط ثم نطاقي استقرار (+-10) خلال 12-24 شهرًا، ومن مُحفزات هذا السيناريو تباطؤ البنوك المركزية عن عمليات شراء الذهب، وحدوث تعافٍ نسبي للعملة الأمريكية أو تراجع التدفقات التضاربية.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أن ارتفاع أسعار الذهب ليس حدثًا عابرًا، بل نتيجة تفاعلية مُعقدة بين عوامل اقتصادية ومالية وجيوسياسية تتقاطع جميعًا عند نقطة واحدة هي فقدان الثقة في النظام النقدي العالمي الذي يُهيمن عليه الدولار، فالذهب بوصفه محدود العرض ومرتبطًا بالقيمة الحقيقية تاريخيًا، يستعيد مكانته كلما زادت هشاشة الأوضاع الاقتصادية أو تفاقمت المخاطر الجيوسياسية.
وبذلك يُمكن القول إن الذهب هو المرآة الصادقة لمخاوف المستثمرين وتوقعاتهم، والمؤشر الأعمق على صحة النظام المالي العالمي، فمستقبل الذهب يتوقف على المسار الذي سيتخذه الاقتصاد العالمي، خلال السنوات المقبلة، على أن يكون السيناريو الأول الأقرب لسوق الذهب.