بعد أكثر من قرن على اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي، تعود كنوز توت عنخ آمون لتسطع من جديد داخل المتحف المصري الكبير، في عرض غير مسبوق يجمع أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية في مكان واحد لأول مرة منذ اكتشافها عام 1922.
لحظة ينتظرها العالم بشغف، حين تلتقي عظمة التاريخ بأحدث تقنيات العرض المتحفي لتروي حكاية الفرعون الشاب الذي رحل مبكرًا وبقي اسمه خالدًا في الذاكرة الإنسانية.
اكتشاف غيّر وجه التاريخ
في الرابع من نوفمبر عام 1922، وبين كثبان وادي الملوك بمدينة الأقصر، اكتشف عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر مقبرةً صغيرة ظنها في البداية مثل سائر المقابر الملكية، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين.
كانت المقبرة شبه مكتملة، تضم مئات القطع الذهبية والتماثيل والعربات والعقود، وكل ما كان يرافق الفرعون في رحلته إلى العالم الآخر.
وعندما رفع كارتر الغطاء عن القناع الذهبي لتوت عنخ آمون، وقف مبهورًا أمام لمعان الذهب الخالص وعيني الملك المتحديتين للزمن.
ذلك الاكتشاف لم يكشف فقط عن حياة ملك شاب حكم مصر نحو تسع سنوات، بل أزاح الستار عن أسرار المعتقدات الجنائزية والفنية في الدولة الحديثة، وأعاد للعالم شغفه بالحضارة المصرية القديمة، وحتى "لعنة الفراعنة" التي راجت حينها زادت الأسطورة بريقًا وجعلت اسم توت عنخ آمون يتردد في أرجاء المعمورة.
القناع الذهبي
ومن بين مقتنيات المقبرة التي تجاوزت 5 آلاف قطعة، يظل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون أيقونة لا يضاهيها عمل فني في التاريخ، إذ صُنِع القناع من أكثر من 10 كيلو جرامات من الذهب الخالص، وزُيَّن بأحجار الفيروز واللازورد والعقيق؛ ليجسد ملامح الملك الشاب في أبهى صورة.
وإلى جانب القناع، تضم المجموعة عرشًا مرصعًا بالمينا الزرقاء يصوِّر الملك والملكة في مشهد عائلي، وأربع عجلات حربية فاخرة، وتماثيل حراسة ذهبية، وأسرة جنائزية على هيئة آلهة مصرية.
تلك القطع لا تحمل فقط قيمة مادية مذهلة، بل تسجل ذروة ما بلغته الحرف المصرية من دقة وإبداع في زمن كانت فيه الحضارة تكتب أولى صفحات الفن الخالد.
وعاشت مقتنيات توت عنخ آمون لعقود طويلة في قاعات المتحف المصري بالتحرير، لكنها كانت موزعة في مساحات ضيقة لم تكشف عظمتها.
ومع بداية مشروع المتحف المصري الكبير على هضبة الأهرامات، تقرر أن تنتقل المجموعة بأكملها إلى موطن يليق بمكانتها، وكانت عملية النقل واحدة من أدق العمليات الأثرية في التاريخ الحديث، فكل قطعة -مهما صغر حجمها- خضعت لدراسات علمية دقيقة لتحديد أفضل طرق التعبئة والنقل، ورافقها فريق من المرممين والخبراء المصريين المدربين على أعلى مستوى.
ونُقِلت أغلب مقتنيات الملك إلى مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، حيث أُعيد ترميم عدد من القطع التي لم تر النور منذ اكتشافها.
7 آلاف متر
وفي المتحف المصري الكبير، تمتد قاعة توت عنخ آمون على مساحة تزيد على 7 آلاف متر مربع، صممت لتمنح الزائر تجربة حسية فريدة، فالإضاءة الهادئة، والممرات المائلة، والحوائط المائلة بخفة كأنها جدران مقبرة ملكية، تجعل الزائر يشعر أنه يسير في ممرات وادي الملوك نفسها.
وتتيح شاشات العرض التفاعلية وتقنيات الواقع المعزز للزوار مشاهدة القطع في بيئتها الأصلية، بل وإعادة تركيب المشاهد التي كانت عليها داخل المقبرة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام.
كما يستخدم المتحف أنظمة عرض متطورة للتحكم في درجة الحرارة والرطوبة والإضاءة، بما يحافظ على القطع من أي تلف ويطيل عمرها لقرون قادمة، وهذه التجربة لا تشبه زيارة متحف تقليدي، بل رحلة زمنية تعيد إحياء حضارة بأكملها.
توت عنخ آمون لم يكن أعظم ملوك مصر من جهة الإنجازات السياسية أو العسكرية، لكنه أصبح رمزًا خالدًا للحضارة المصرية؛ بسبب ما تركه من كنوز، وبفضل قصة اكتشافه المدهشة التي أسرت خيال العالم.
وفي الأول من نوفمبر المقبل ومع افتتاح المتحف المصري الكبير، يعود الملك الشاب ليجسد من جديد عبقرية المصريين القدماء، وقدرتهم على صنع الجمال من حجر ومعادن وتراب.
وبينما يتجمع الزوار أمام القناع الذهبي، تلمع انعكاسات الضوء على وجه الملك كأنه يبتسم للعالم من جديد، مؤكدًا أن الحضارة المصرية لا تزال نابضة بالحياة، وأن الذهب ليس في المعدن وحده، بل في روح الإنسان الذي صنعه.
ولن يكتفي المتحف المصري الكبير بعرض كنوز الماضي، بل يقدم رسالة متجددة عن الإبداع الإنساني، ويمنح العالم فرصة فريدة ليتأمل عظمة مصر التي كانت وما زالت، موطن النور والحضارة والخلود.