الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

محمد منير.. صوت النيل الذي غنى للحياة

  • مشاركة :
post-title
محمد منير

القاهرة الإخبارية - إيمان بسطاوي

حين يصدح صوته، تشعر أن النيل نفسه يغنّي، وأن الطمي النوبي يفيض موسيقى تنبض بالحياة. هو الفنان الذي كسر القوالب وحرّر الغناء من حدوده، وخلّد بصوته ذاكرة وطن بأكمله، من أسوان إلى القاهرة، ومن الفلكلور إلى الجاز، ليصبح أيقونة فنية وإنسانية لا تتكرر في المشهد العربي.

إنه الملك محمد منير، الذي يحتفل اليوم بعيد ميلاده الحادي والسبعين، محتفظًا بمكانته الفريدة كصوتٍ للحلم والحرية والهوية.

رحلة من الجذور

في بيئةٍ غنيةٍ بالتراث والثقافة النوبية، نشأ منير قبل 71 عامًا، وتحديدًا عام 1954، في قرية منشية النوبة بمحافظة أسوان، حيث تشبّع منذ طفولته عشق الأرض والموسيقى واللون.

لكن القدر كتب له فصلًا جديدًا حين اضطرّت أسرته إلى الهجرة إلى القاهرة في مطلع السبعينيات، بعد غرق قريتهم تحت مياه بحيرة ناصر إثر بناء السد العالي.

في العاصمة، بدأت ملامح الرحلة الفنية تتشكّل. التحق منير بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، وهناك انفتح وعيه على الفن بمعناه الأوسع، والتقى بمجموعة من المبدعين الذين رسموا له طريقه، مثل الشاعر عبد الرحيم منصور، والموسيقار هاني شنودة، والموسيقار النوبي أحمد منيب، الذي تبنّى موهبته وصقلها، فخرج منير بمزيجٍ فنيٍّ فريدٍ جمع بين النغمة النوبية والإيقاع الإفريقي والنفَس العالمي.

من "علموني عنيكي"... ميلاد صوت جديد

بدأ منير مشواره بتأسيس فرقة موسيقية جمعت بين الشعر والموسيقى الحديثة، وأصدر أول ألبوماته "علموني عنيكي" عام 1977.

لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع ألبومه "شبابيك" عام 1981، الذي أحدث ثورة موسيقية بمزجه بين الجاز والإيقاعات الشرقية، ليصبح أول تجربة ناجحة من نوعها في الغناء العربي.

بـ"شبابيك" أصبح منير رائدًا في تجديد الموسيقى المصرية ومطوّرًا للأغنية الحديثة، مقدّمًا صوتًا مختلفًا يعبّر عن الإنسان المصري المعاصر، وينسج من الواقع موسيقى للحلم.

نصف قرن من الإبداع والتجدّد

على مدار أكثر من خمسة عقود، ظل محمد منير مخلصًا للتجديد، رافضًا التكرار، يصوغ من كل مرحلة لونًا جديدًا من الموسيقى.

تحوّلت ألبوماته إلى علاماتٍ في الوجدان، مثل "اتكلمي" (1983)، "مشوار" (1991)، "ممكن" (1995)، و"إمبارح كان عمري عشرين" (2005).

وغنّى أعمالًا خالدة مثل "الليلة يا سمرا"، "يعشق البحر"، "حدوتة مصرية"، "نعناع الجنينة"، و**"يا ياسمينا"**، التي جسّدت روح مصر بملامحها المختلفة، بين النوبي والبدوي والسكندري، وبين الشجن والفرح، ليظل صوته جسرًا بين الأجيال وموسيقى تتوارثها الذاكرة.

الملك ممثّلًا

لم يكن الغناء وحده كافيًا لتجسيد موهبة محمد منير، فحمل صوته وصورته إلى الشاشة الكبيرة بتعاونٍ استثنائي مع المخرج يوسف شاهين في أفلام "حدوتة مصرية"، و"اليوم السادس"، و"المصير"، الذي قدّم فيه أحد أهم أدواره وغنّى خلاله "علي صوتك بالغنا"؛ الأغنية التي تحوّلت إلى نشيدٍ للحرية.

كما شارك في أفلامٍ مميّزة مثل "الطوق والإسورة" و"يوم مرّ... يوم حلو"، ومؤخرًا في فيلم "ضي".

وعلى خشبة المسرح، قدّم عروضًا لافتة في "الملك هو الملك" و"ملك الشحاتين"، وترك بصمةً في الدراما التلفزيونية بمسلسلات "جمهورية زفتى" و"المغني".

صوت الوطن والإنسان

كان منير دائمًا أكثر من مجرد مطرب؛ كان ضميرًا فنيًا يعبر عن الناس. غنّى للحرية، والعدالة، والحب، والوطن. بصوته حمل هموم الشباب وأحلامهم، وصاغ من موسيقاه رسالة إنسانية عابرة للحدود. ولذلك ظل جمهوره يلقبه بـ “صوت مصر الحقيقي”، وصوت الجنوب الذي وصل إلى قلوب الشمال والشرق والغرب.

جوائز وتكريمات

نال محمد منير خلال مسيرته العديد من الجوائز المحلية والعالمية، أبرزها جائزة السلام من CNN، والجائزة الماسية من BAMA Awards، وأفضل مطرب في جوائز MEMA لعام 2008، إلى جانب تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي واحتفالية يوم الثقافة المصرية، وحصوله على وسام ماسبيرو تقديرًا لعطائه الفني الممتد.

الملك الذي لا يشيخ

رغم مرور السنين وتغيّر الأجيال، ظل محمد منير كما عرفه الجميع؛ شابًا في صوته، حرًا في اختياراته، صادقًا في فنه. صوته ما زال يحمل عبق النوبة ودفء الجنوب، ويواصل الغناء من القلب وكأن كل أغنية تُولد اليوم.

هو الفنان الذي لم يركن إلى المجد، بل يصنع مجده كل يوم من جديد، ليبقى الكينج محمد منير رمزًا خالدًا لجيل لا ينسى أن الموسيقى يمكن أن تكون وطنًا آخر.