في وقت تتصاعد فيه التوترات العالمية، تبقى غزة عنوانًا للمُعاناة الإنسانية الأشد قسوة في عصرنا الحديث، وبينما تتواصل أصوات الانفجارات وألسنة اللهب من بين الفلسطينيين ومنازلهم، يواجه العالم اختبارًا أخلاقيًا وسياسيًا غير مسبوق، حول مدى استطاعة الأمم المتحدة أن تتحرك بقرارات حاسمة توقف شلال الدم، وتُنهي الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
قرارات اللاشيء
قبل عام، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 124 دولة لصالح قرار تاريخي يطالب إسرائيل بإنهاء احتلالها خلال 12 شهرًا، ويلزم الدول بوقف أي تجارة مرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية، إضافة إلى حظر نقل الأسلحة التي يُحتمل استخدامها ضد الفلسطينيين، لكن إسرائيل تجاهلت القرار كليًا، بل مضت في تصعيد هجومها على غزة بقطع المساعدات الإنسانية وتوسيع عملياتها العسكرية.
وفي سبتمبر 2024، انعقدت الجمعية العامة في جلسة خاصة طارئة، مستندة إلى مبدأ "الاتحاد من أجل السلام"، بعد أن أصدرت محكمة العدل الدولية فتوى تقضي بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي وضرورة إنهائه فورًا، ومع ذلك، بقيت القرارات حبرًا على ورق، بينما ارتفعت أعداد الضحايا وازدادت الكارثة الإنسانية تفاقمًا.
مواقف مُتباينة
بعض الدول اتخذت خطوات فردية حازمة؛ فأعلنت تركيا في أغسطس مقاطعة تجارية شاملة لإسرائيل، فيما التزمت 12 دولة في "مجموعة لاهاي" بحظر نقل الأسلحة عبر موانئها، كذلك، دعت السويد وهولندا الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على إسرائيل، لكن معظم الدول الـ124 التي أيدت القرار الأممي لم تُفعّل التزاماتها، مما شجع إسرائيل على مواصلة جرائمها بدعم أمريكي واسع.
في مواجهة هذا الوضع، تقدمت فلسطين بطلب رسمي لتفويض قوة حماية دولية في غزة، وحظيت هذه المبادرة بدعم منظمات مدنية وشخصيات سياسية بارزة، مثل الرئيس الأيرلندي مايكل هيجينز، وتتصاعد الأصوات المطالبة بانعقاد جلسة استثنائية أخرى للجمعية العامة لبحث هذا المقترح، خصوصًا في ظل شلل مجلس الأمن بفعل الفيتو الأمريكي.
مبادرات هشة
في يوليو الماضي، طرحت فرنسا والسعودية إعلانًا جديدًا يدعو إلى "التسوية السلمية" عبر حل الدولتين، وصوّتت لصالحه 142 دولة، غير أن الإعلان تجنب أي إجراءات إلزامية ضد إسرائيل، مكتفيًا بوعود تطبيع تجاري وعسكري، في وقت ترفض فيه إسرائيل حتى وقف إطلاق النار أو إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ويرى منتقدون أن الإعلان يُمهّد لتواجد قوات أجنبية في غزة لمراقبة الفلسطينيين بدلًا من حمايتهم.
وتشبه الأزمة الحالية إلى حد بعيد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث احتاج العالم أكثر من 30 عامًا من العقوبات حتى أسقطه، غير أن الوضع في غزة لا يحتمل الانتظار لعقود، فالإبادة مستمرة، والمجاعة تُهدد حياة الملايين.
وحسب مجلة "فير أُبزرفر" الأمريكية، فإن الأمم المتحدة مطالبة بعقد جلسة طارئة تُقر مقاطعة شاملة، وحظر أسلحة، وسحب استثمارات من إسرائيل، بإشراف مباشر من الأمانة العامة، كما يمكن لدول مؤثرة مثل الصين لعب أدوار قيادية في هذه المقاطعة، بينما يبقى الاتحاد الأوروبي مدعوًا لتجاوز انقساماته والانضمام إلى الحملة.
دور الولايات المتحدة
وأعلنت أستراليا وكندا والمملكة المتحدة اعترافها بالدولة الفلسطينية، في خطوة منسقة على ما يبدو، من شأنها أن تزيد الضغوط على إسرائيل وتضع الدول الثلاث في خلاف مع الولايات المتحدة.
ويظل الموقف الأمريكي العقبة الأكبر، فمنذ عهد جو بايدن وصولًا إلى دونالد ترامب، وفرت واشنطن غطاءً دبلوماسيًا وعسكريًا كاملًا لإسرائيل، مستخدمة الفيتو لعرقلة أي قرار في مجلس الأمن.
وعلى الرغم من أن غالبية الأمريكيين باتوا يعارضون هذا الدعم، إلا أن النخبة الحاكمة تواصل التواطؤ في الإبادة، لكن ما تخشاه إسرائيل والولايات المتحدة حقًا هو وحدة المجتمع الدولي، فإذا تحركت الدول التي سبق أن صوّتت لإنهاء الاحتلال بخطوات عملية، يمكن للأمم المتحدة أن تفرض واقعًا جديدًا يُجبر إسرائيل على وقف جرائمها، وإلا سيبقى العالم متواطئًا بالصمت، فيما تحترق غزة تحت أنقاضها.