لم يكن تفرُّد النجم المصري الراحل جميل راتب، في نجوميته التي اكتسبها عبر مسيرة طويلة من الأعمال الفنية حملت مزيجًا فريدًا من الموهبة والقدرات الفنية الخاصة، ولكن تميزه جاء من قدرته على ترك بصمة واضحة في مختلف أعماله، بما في ذلك مشاركاته في السينما العالمية.
حلم جميل راتب منذ بداياته أن يصبح ممثلًا، ورغم أن طموحات أسرته فيه كانت بعيدة عن المجال، إلا أنه لم يستجب، وقرر أن يرحل ويترك خلفه كل ما يقيده، ليحقق حلمه الذي وصل به إلى العالمية، وجعله يترك أثرًا يليق بفنان يعرف جيدًا قيمة ما صنع.
جميل أبو بكر راتب، المولود في 18 أغسطس 1926 بالقاهرة، والذي تحل اليوم ذكرى رحيله، نشأ وسط عائلة أرادت له طريق القانون والسياسة، فالتحق بمدرسة الحقوق الفرنسية، لكن قلبه كان منصرفًا إلى حلم آخر؛ حلم المسرح والكاميرا، إذ لم يُكمل عامه الأول في الدراسة حتى شد الرحال إلى باريس، حيث بدأت رحلته الحقيقية مع الفن.
لم تكن البداية سهلة، إذ قطعت عائلته الدعم عنه رفضًا لاختياره، فاضطر للعمل في أبسط المهن، مثل نادل في مقهى، وأحيانًا كومبارس في العروض، لكنه كان يرى في تلك التجارب مدرسة لا تقل قيمة عن أي معهد مسرحي؛ قربته من الناس وفتحت عينيه على وجوه وتجارب لم يكن ليراها في حياته السابقة.
ومن قلب تلك الظروف الصعبة، انطلقت أولى خطواته السينمائية عبر فيلم "أنا الشرق" إلى جانب أسماء لامعة مثل جورج أبيض وحسين رياض.
وفي باريس، أقام جميل راتب أكثر من 28 عامًا انشغل خلالها بالمسرح والسينما، فوقف على خشبات عظيمة يؤدي أعمال شكسبير وراسين وموليير، وشارك مع فرقة "كوميدي فرانسيز" الشهيرة.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية ازداد الاهتمام بالأنشطة الفنية والأدبية في فرنسا، وهو المناخ الذي فتح أمامه أبوابًا واسعة.
لم يكن وجوده في باريس حاجزًا بينه وبين العالمية؛ فقد ساعده إتقانه للغات الأجنبية على المشاركة في أفلام دولية مثل "لورانس العرب" عام 1962 مع عمر الشريف، وتقديم صوته في فيلم "عمر المختار" مع أنطوني كوين.
ومع ذلك ظل ينتظر اللحظة التي تضعه في صدارة الفن المصري، فجاءت مع عودته إلى القاهرة ودوره الاستثنائي في فيلم "الصعود إلى الهاوية" عام 1974، وهو الدور الذي أعاد تعريف صورته في نظر الجمهور والمنتجين.
بعدها توالت أعماله، فكان الطبيب مفيد أبو الغار في "الراية البيضاء"، وكان الجد أبو الفضل في "يوميات ونيس"، كما ترك بصمة قوية في أفلام مثل "البداية" و"الكيف" و"لا عزاء للسيدات".
كانت أدوارُه دائمًا أبعدَ من مجرد تمثيل، فهو الذي قال إنه يحب أن يختار شخصياتٍ لا تشبهه، ليتذوَّقَ متعةَ اكتشافِ ما ليس فيه، حتى عندما قبل أدوارًا أقلَّ من طموحِه بسبب الحاجة، كان يعود ليوازنها بأعمالٍ كبرى تليق به وتعيد الاعتبارَ لاسمه.
ومن بين ما ارتبط به الجمهورُ، شخصيةُ "البهظ بيه" تاجرِ المخدرات في الفيلم الشهير "الكيف" مع محمود عبدالعزيز ويحيى الفخراني، وهي شخصيةٌ صنعت حضورًا خاصًّا، حتى وإن ظل هو نفسُه متعجبًا من سرِّ نجاحِها.
وعلى امتدادِ مشواره، ظل جميل راتب وفيًّا للإنسانية التي رآها في أبسط الناس، إذ كان يروي أن أكثرَ من أثَّروا في حياتِه لم يكونوا نجومًا كبارًا، بل سائقُ أوتوبيسٍ توقّف ليسلِّم عليه، وعاملةُ نظافةٍ أهدتْه مشروبًا بسيطًا، وهي مواقف في نظرِه، كانت أعظمَ من كثيرٍ من تكريماتِ المهرجانات.
عرفت شاشاتُ مصر والعالمِ العربي جميل راتب ممثلًا قديرًا، لكن من عرفه عن قربٍ عرفه أيضًا إنسانًا صادقًا، قليلَ الكلامِ عن نفسِه، رقيقًا في مشاعرِه رغم قسوته الظاهرية في أدوارِ الشر.
بكى مرتين فقط في حياتِه، مرّةً لفقدِ صديقٍ في فرنسا، وأخرى عند تكريمِه في اليونسكو حين عُرِض مشهدٌ جمع حسنَ حسني وياسرَ جلال في مسلسل رحيم، فغلبتْه دموعُه.
وفي سنواتِه الأخيرة، اتّخذ قرارًا واضحًا ألّا يقدِّم عملًا لا يضيف إلى رصيدِه أو يليق بتاريخِه، فآثر الصمتَ على المجاملةِ، حتى جاء المرضُ ليُبعِدَه عن الفنِّ أكثرَ ممّا كان يتمنّى، ولكن ظلّ "راتب" حيًّا في ذاكرةِ جمهورِه.