احتفلت الصين في الثالث من سبتمبر 2025 بالذكرى الثمانين ليوم النصر في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) باستسلام اليابان وهزيمة دول المحور، وذلك بمشاركة عدد من رؤساء وقادة وممثلي الدول، في مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، بساحة ميدان "تيان آن من" بالعاصمة بكين.
وتصدر الاحتفال تقديم الصين عروضًا عسكرية تُظهِر القدرات المتنامية للجيش الصيني، وهي العروض التي اعتُبِرت المناسبة الأولى التي يشهدها الزعماء الثلاثة شي وبوتين وكيم، وجعلت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتساءل ما إذا كان نظيره الصيني شي جين بينج سيذكر الدعم الهائل، والتضحيات التي قدمتها الولايات المتحدة للصين، لمساعدتها في نيل حريتها من غزاة أجانب غير ودودين، وكذاك علَّق ترامب على ذلك الاحتفال ساخرًا بتوجيه التحية للرؤساء الثلاثة، وهم يتآمرون على الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نفته وزارة الخارجية الصينية.
لذلك أثار تنظيم الصين لذلك الاحتفال الضخم تساؤلًا محوريًا حول ماهية رسائل الصين للعالم وللداخل أيضًا في هذا التوقيت؟
رسائل الصين للعالم
هناك العديد من الرسائل التي سعت الصين لتوظيفها خلال ذلك الاحتفال، وهو ما يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
(*) استعراض قوة الصين العسكرية: شكَّل الاحتفال بمرور ثمانين عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية فرصة مواتية للرئيس الصيني شي جين بينج لاستعراض قوة الصين العسكرية، من خلال استعراض أحدث الأسلحة التي تمكنت بكين من إنتاجها وتطويرها، ومنها على سبيل المثال: صواريخ واي جي YJ الأسرع من الصوت، وصواريخ باليستية عابرة للقارات قادرة على مل رؤوس نووي، وعُرض نظام الدفاع الفضائي HQ-29 القادر على إسقاط الأقمار الصناعية الأجنبية، لأول مرة في العرض العسكري، كما عُرضت عدة طيارات مُسيَّرة ومركبات برية تملك مجموعة متباينة من القدرات، بما في ذلك الإجلاء ونقل المؤن والذخيرة والاستطلاع، كما حلَّقت طائرات مزودة برادارات فوق العرض لاستعراض إمكانات البلاد الاستطلاعية، كما تم الكشف عن طائرة الإنذار المبكر "كاي -600" لأول مرة خلال عرض علني.
*****
(*) تنامي النفوذ الدولي للصين: جاءت مشاركة عدد معتبر من قادة الدول وممثليها من 26 دولة أبرزها: روسيا، وكوريا الشمالية، وسلوفاكيا ممثلة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومصر، وتركيا، وإيران، وإندونيسيا، وماليزيا، وتركمانستان وأذربيجان، وأرمينيا؛ لتعكس رغبة الصين في إظهار مكانتها وتمدد نفوذها الدولي من خلال عملية تشبيك المصالح مع أقاليم العالم المختلفة، وذلك من خلال مشروعها التنموي مبادرة "الحزام والطريق" والتي تهدف إلى إنشاء مسارات موازية تجارية وبرية وبحرية تربط بينها وبين أوروبا عبر المرور في آسيا، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
(*) الحفاظ على مبدأ الصين الواحدة: جاء تحذير الرئيس الصيني خلال العرض العسكري من أن العالم لا يزال يوجه خيارًا بين السلم والحرب، مؤكدًا أن الصين لا يمكن وقفها وأنها في المسار الصحيح من التاريخ، ليعكس إصرارًا صينيًا يهدف إلى الحفاظ على مبدأ الصين الواحدة، وهو الأمر الذي يترجم رفضه للدعوات الغربية المساندة لاستقلال تايوان وأنها جزء من الصين باعتبارها درة التاج في الإستراتيجية الصينية، كونها -حال استردادها- ستسهم في فك الحصار الأمريكي عن الصين، وتفتح الباب واسعًا أمام البحرية الصينية باتجاه العمق البحري في المحيط الهادىء ونحو جزيرة جوام، القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر في المنطقة.
(*) الرغبة في إرساء نظام عالمى جديد: تعتبر العديد من الاتجاهات أن رسائل الصين من ذلك الاحتفال الضخم ترتبط فى أحد جوانبها بالمساعي الرامية إلى بناء نظام عالمي جديد، وهو الأمر الذي عبرت عنه مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس بأن مشاركة رئيسي روسيا وكوريا الشمالية إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينج في العرض العسكري الضخم الذي أُقيم في بكين، تندرج في إطار مساعٍ لبناء نظام عالمي جديد مناهض للغرب، وأضافت: "عندما نرى الرئيس شي واقفًا إلى جانب قادة روسيا وإيران وكوريا الشمالية في بكين، فإن الأمر لا يقتصر على مشهد رمزي مناهض للغرب، بل يمثل تحديًا مباشرًا للنظام الدولي القائم على القواعد"، وأرجعت ذلك إلى أن حرب روسيا في أوكرانيا تتواصل بدعم صيني. هذه حقائق على أوروبا مواجهتها الآن، وأضافت أننا نشهد محاولات متعمدة لتغيير النظام الدولي، تتحدث الصين وروسيا أيضًا عن قيادتهما تغييرات لم نشهدها منذ 100 عام وعن مراجعة لنظام الأمن العالمي، وقالت كالاس إن أوروبا في حاجة إلى تعزيز قوتها الجيوسياسية في مواجهة الاضطرابات العالمية، مشيرةً إلى أن نظامًا عالميًا جديدًا يتشكل ولن يتم تشكيله من دون أوروبا، ولكن سيتم تشكيله بما تكون أوروبا مستعدة للقيام به، وما إذا كنا على استعداد للاعتراف بالحاجة إلى أن تلعب أوروبا دورًا جيوسياسيًا.
(*) صوت الجنوب العالمي: تماشيًا مع تصريحات الرئيس الصيني قبل انعقاد قمة شنجهاي للتعاون ببكين في 31 أغسطس - 1 سبتمبر 2025، والتي طالب فيها بأهمية توحيد دول الجنوب العالمي، والالتزام بالتعددية الحقيقية، وتعزيز نظام دولي أكثر عقلانية، تسعى الصين لتكون صوت الجنوب العالمي، وهو مصطلح ساد في ستينيات القرن العشرين كبديل لمصطلحات مثل العالم الثالث والبلدان النامية، وتم استخدامه للتأكيد على استقلالية هذه الدول وتحدي هيمنة الدول الغربية في السياسة الدولية والاقتصاد، وتسليط الضوء على التفاوتات العالمية بين الشمال والجنوب، وتشمل دول الجنوب العالمي دولًا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتمثل 85% من سكان العالم ونحو 39% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لذلك دائمًا ما تردد الصين أنها محور ارتكاز للجنوب العالمي باعتبارها دولًا نامية، وهو ما عبر عنه لي شي الممثل الخاص للرئيس الصيني خلال فعاليات قمة مجموعة الـ77 والصين التي عُقِدت في هافانا عاصمة كوبا في سبتمبر 2023، بأن الصين هي أكبر دولة نامية في العالم وعضو طبيعي في الجنوب العالمي وستظل الصين باعتبارها أكبر دولة نامية في العالم عضوًا بعائلة الدول النامية وعضوًا بدول الجنوب العالمي إلى الأبد، مهما وصلت من مرحلة تنموية.
محور الاضطراب
رسَّخ ظهور الرئيس الصيني شى جين بينج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية لتصفه بعض التحليلات بمحور الاضطراب، وهو تحالف غير رسمي ينظر إليه على أنه يشكِّل تحديًا للنظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ربما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوصف اللقاء الثلاثى بين شي وبوتين وكيم -من خلال منصته "تروث سوشيال"- بأنهم يتآمرون على الولايات المتحدة الأمريكية.
وللمفارقة فإن قيام الرئيس الأمريكي ترامب بتغيير مسمى وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب جاء عقب احتفالات الصين بعيد النصر، وهو التغيير الذي يحمل دلالة واضحة ليرسل رسائل للداخل كلغة تعبئة سياسية وللخارج أيضًا للعودة إلى لغة القوة المباشرة.
مجمل القول، هدفت الصين إلى توجيه رسائل للعالم بأنها قوة صاعدة لن يتوقف تقدمها، وتسعى لتعزيز دورها ومكانتها في السياسة الدولية، والاعتراف بهذا الدور فى ظل ما تمتلكه من قدرات عسكرية واقتصادية وثقافية ومبادرات عالمية متنوعة في مجالات الاقتصاد والسياسة والتنمية والعلاقات الدولية منها مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة أصدقاء السلام، وشعار مجتمع من أجل مستقبل مشترك، وفي مقابل ذلك تسعى الولايات المتحدة للحد من صعود الصين، ومحاولة احتوائها للحفاظ على هيمنتها على النظام الدولي.