تواجه أوكرانيا تحديًا مضاعفًا في ظل الحرب المستمرة مع روسيا، إذ تقاتل على جبهتين متوازيتين، الأولى عسكرية ضد روسيا، والثانية سياسية داخلية ضد الفساد والانحراف عن المسار الديمقراطي، فيما تكشف الأحداث الأخيرة التي رصدها تحليل لمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية عن عزيمة الشعب الأوكراني لمقاومة الفساد رغم ويلات الحرب.
هجوم على مؤسسات مكافحة الفساد
في يوليو الماضي، شهدت أوكرانيا أزمة سياسية داخلية حادة، عندما سعت إدارة الرئيس فولوديمير زيلينسكي لتقويض استقلالية أهم مؤسستين لمكافحة الفساد في البلاد.
ووفقًا لما ورد في مجلة "فورين أفيرز"، استهدفت هذه الخطوة المكتب الوطني لمكافحة الفساد (NABU) ومكتب المدعي العام المتخصص في مكافحة الفساد(SAPO).
بدأت الأزمة في 21 يوليو بعمليات تفتيش واسعة نفذتها الأجهزة الأمنية دون أوامر قضائية، شملت أكثر من 50 موقعًا مرتبطًا بمحققي المكتب الوطني لمكافحة الفساد.
وادعت السلطات أن هذه العمليات تهدف إلى "تحييد النفوذ الروسي في الوكالة"، لكنها فشلت في تقديم أدلة مقنعة تدعم هذه الاتهامات.
في اليوم التالي، أقر البرلمان الأوكراني قانونًا وقَّعه زيلينسكي فورًا، يمنح المدعي العام المُعيَّن سياسيًا سيطرة كاملة على جميع تحقيقات المكتب الوطني لمكافحة الفساد، ما ألغى عمليًا الاستقلالية التي منحت لمكتب المدعي العام المتخصص عام 2016.
هذه الخطوة أعادت إصلاحات مكافحة الفساد في أوكرانيا عقدًا كاملًا إلى الوراء.
رد فعل شعبي سريع
لم يتأخر رد الفعل الشعبي طويلًا، إذ تدفق آلاف الأوكرانيين -معظمهم من الشباب في أعمار المراهقة والعشرينيات المبكرة- إلى الشوارع المحيطة بمكتب الرئاسة.
حمل المتظاهرون لافتات تطالب زيلينسكي بإلغاء القانون، وأطلقوا رسالة واضحة مفادها أن الأوكرانيين لن يقبلوا أي تراجع عن الحكم الديمقراطي الشفاف، حتى في ظل الحرب الوحشية التي تخوضها بلادهم.
تصاعد الضغط الشعبي والدولي بسرعة، خاصة بعد تحذيرات من قادة الاتحاد الأوروبي من أن القانون الجديد قد يعرِّض مسيرة انضمام أوكرانيا للاتحاد للخطر.
وفي غضون أيام قليلة، اضطر زيلينسكي للتراجع وقدم مشروع قانون جديد للبرلمان يلغي التغييرات المثيرة للجدل. وبحلول نهاية يوليو، استُعيدت السلطة للمؤسستين المتخصصتين في مكافحة الفساد.
إنجازات ملموسة رغم الحرب
يشير تحليل "فورين أفيرز" إلى أن مؤسسات مكافحة الفساد الأوكرانية حققت نتائج مبهرة منذ تأسيسها، فمنذ أن بدأ مكتب المدعي العام المتخصص عمله الكامل في 2016، وُجهت تهم فساد جنائية لـ71 عضو برلمان، بينهم مشرعون ينتمون للأحزاب الحاكمة في عهدي زيلينسكي وسلفه بيترو بوروشينكو.
كما أُدين أكثر من 40 قاضيًا بتهم الفساد، وكثير منهم ضُبطوا متلبسين بتلقي الرشاوى وحُكم عليهم بالسجن.
واصلت هذه المؤسسات عملها حتى بعد بدء الحرب مع روسيا، إذ استهدفت شخصيات نافذة مثل رئيس المحكمة العليا السابق فسيفولود كنيازيف الذي ضُبط يتلقى رشوة بقيمة 2.7 مليون دولار، ورئيس وكالة مكافحة الاحتكار الحالي بافلو كيريلينكو المتهم بالإثراء غير المشروع وعدم الإعلان عن أصوله.
جزء حيوي من الحرب
يؤكد الخبراء في "فورين أفيرز" أن مكافحة الفساد ليست مجرد قضية داخلية، بل جزء لا يتجزأ من الحرب الأوسع ضد روسيا، إذ إن الفساد يضعف الديمقراطية الأوكرانية من الداخل، ويستنزف موارد القوات المسلحة الأوكرانية، ويوفر لموسكو قنوات للتدخل في السياسة الداخلية الأوكرانية.
عائد مالي مباشر للمجهود الحربي
حققت جهود مكافحة الفساد عوائد مالية مباشرة للدفاع الأوكراني، حيث حول المكتب الوطني لمكافحة الفساد ومكتب المدعي العام المتخصص أكثر من 70 مليون دولار للقوات المسلحة منذ بداية الحرب الشاملة، من خلال مدفوعات الكفالة والرشاوى المُسترَدَّة واتفاقيات الإقرار بالذنب في قضايا الفساد.
وبلغ إجمالي ما جمعته هذه الوكالات نحو 100 مليون دولار سنويًا في عامي 2023 و2024.
كما كشفت الوكالتان في أغسطس الماضي عن مجموعة إجرامية من شخصيات سياسية وعسكرية وتجارية، اختلست أموالًا مخصصة من السلطات المحلية لشراء طائرات بدون طيار وأنظمة الحرب الإلكترونية.