يشير مفهوم "حروب المعادن النادرة" إلى سلسلة من القيود التصديرية والسياسات الصناعية والتحركات الجيوسياسية التي توظفها الدول لتعظيم نفوذها أو لحماية صناعاتها في مواجهة خصومها. لذلك أصبحت المعادن النادرة جزءًا من معادلة الأمن القومي والاقتصاد الدولي، بما يشبه "الذهب الأسود" في القرن العشرين. ومنذ نهاية الحرب الباردة، بات نفوذ القوى الكبرى يُقاس بالقدرات العسكرية والتكنولوجية المباشرة، لكن مع دخول القرن الحادي والعشرين برزت سلاسل الإمداد الصناعية والتكنولوجية كعامل لا يقل أهمية عن حاملات الطائرات أو الرؤوس النووية. وفي قلب هذه السلاسل تقف المعادن النادرة والحرجة مثل النيوديميوم والديسبروسيوم (المغناطيسات الدائمة)، والليثيوم والكوبالت والنيكل (بطاريات السيارات الكهربائية)، والجاليوم والجرمانيوم (أشباه الموصلات والأنظمة البصرية)، والجرافيت (الأنودات). فلم تعد هذه المواد مجرد عناصر جيولوجية، بل تحولت إلى أدوات قوة جيوسياسية وإلى ساحة صراع غير تقليدية بين القوى العظمى.
في هذا السياق، يأتي هذا التحليل للإجابة على عدة تساؤلات منها: ما مكامن القوة في المعادن النادرة؟.. وإلى أين تتجه حروب المعادن النادرة التي أصبحت ساحة جديدة للصراع بين القوى الكبرى؟.. وكيف تؤثر هذه الحروب على مستقبل الصراعات الدولية بين تلك القوى؟
مكامن القوة
يمكن الوقوف على بعض مظاهر القوة الاستراتيجية للمعادن النادرة، فيما يلي:
(*) المعادن النادرة تعزز الهيمنة الصينية: تسيطر الصين على ما بين 80-90% من قدرات التكرير والمعالجة لعناصر التربة النادرة والجرافيت، ما يجعلها قادرة على التأثير في مسارات الصناعات الغربية الحساسة كالطاقة النظيفة والإلكترونيات الدفاعية.
(*) تزايد القوة الصينية عبر احتكار أو شبه احتكار إنتاج المعادن النادرة: تمنح القدرة على التحكم في تصدير الجاليوم أو الجرافيت، بكين أداة للضغط الاستراتيجي، أشبه بـسلاح نفطي جديد، لكنه يتوجه هذه المرة إلى قطاعات السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات.
(*) زيادة النفوذ الجيو-اقتصادي للدول المنتجة للمعادن النادرة: ساهمت المعادن النادرة في زيادة النفوذ الجيو-اقتصادي للدول التي تمتلكها. فهناك على سبيل المثال إندونيسيا التي استغلت مكانتها في سوق النيكل بفرض حظر على تصدير الخام وإجبار الشركات العالمية على الاستثمار محليًا، ما عزّز نفوذها الجيو-اقتصادي.
مسارات التصعيد
يمكن تحديد أهم الانعكاسات المباشرة المرتبطة بإنتاج وتصدير المعادن النادرة أو الحرجة، على مستقبل الصراعات الدولية، فيما يلي:
(&) انتقال الصراع من المواجهة العسكرية إلى "حروب الإمداد": فبدلًا من الصدام المباشر، قد تلجأ القوى الكبرى إلى تقييد صادرات المعادن أو فرض شروط المنشأ، وهو شكل من "الحرب الباردة الاقتصادية" التي تُرهق الطرف الآخر من دون طلقة واحدة.
(&) زيادة استخدام التجارة العالمية في إدارة الصراعات بين القوى الكبرى: كما استُخدم الغاز الطبيعي سلاحًا جيوسياسيًا في العلاقات الأوروبية-الروسية، أصبحت المعادن النادرة أداة مماثلة في التنافس الأمريكي-الصيني. وهذا يعني أن الحروب المستقبلية قد تُدار عبر لوائح جمركية وتصاريح تصدير أكثر من إدارتها عبر الجيوش والأدوات العسكرية.
(&) تحويل بؤر التوتر الجيوسياسي لمناطق جديدة منتجة للمعادن النادرة: قد تتحول مناطق التعدين الهشة الموجودة في دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية (المنتجة للكوبالت) وميانمار (للعناصر الثقيلة)، إلى ساحات تنافس دبلوماسي بين القوى الكبرى وربما صراع مسلح بالوكالة، إذ تسعى هذه القوى لتأمين سلاسل الإمداد من تلك المناطق.
(&) تعميق الانقسام الاقتصادي بين الدول في إدارة سلاسل الإمداد: التوجه الغربي لفك الارتباط مع سلاسل الإمداد الصينية يقابله تعزيز صيني لشبكات بديلة عبر إفريقيا وآسيا. فقد حفّزت القيود الصينية الغرب على تطوير بدائل تقنية (بطاريات دون كوبالت أو مغناطيسات تقلل الاعتماد على الديسبروسيوم) وعلى الاستثمار في إعادة التدوير. والنتيجة المتوقعة هي عالم أكثر انقسامًا إلى كتل تجارية وصناعية متوازية، ما يعقّد التعاون الدولي ويزيد احتمالات الصراع غير المباشر.
(&) إمكانية حدوث أزمات عالمية طارئة: قد تؤدي الاضطرابات في بعض الدول التي تتوفر فيها المعادن النادرة مثل الكونغو أو ميانمار أو نزاعات في بحر الصين الجنوبي، إلى انقطاعات حادة في المعادن النادرة، ما يُحوّل "حروب المعادن" إلى أزمات عالمية طارئة. كما أن غياب إدارة رشيدة قد يحوّل الثروات المعدنية في تلك الدول إلى نقمة (نزاعات محلية، فساد، تدخل خارجي).
(&) إعادة توزيع الاستثمارات العالمية وزيادة التنافس الدولي حولها: فقد أصبحت دول مثل إندونيسيا وتنزانيا وناميبيا وبوليفيا، بوصلة المستثمرين بسبب وفرة معادنها النادرة، ما يمنحها قوة تفاوضية لم تكن متاحة من قبل.
انعكاسات استراتيجية
يمكن رصد بعض الانعكاسات الاستراتيجية ذات الصلة بحروب المعادن النادرة فيما يتعلق بتأثيرها على زيادة حدة الصراع والتنافس بين القوى الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي، وذلك على النحو التالي:
(-) تصاعد وتنامي الصراع الأمريكي-الصيني: أصبحت حروب المعادن امتدادًا للمنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين. فواشنطن تقيّد تصدير الرقائق المتقدمة، وبكين ترد بضوابط على الجاليوم والجرافيت. وهذا التبادل في فرض القيود يفتح الباب لـ"ردع اقتصادي متبادل" قد يستمر لعقد كامل.
(-) الابتزاز الاقتصادي للاتحاد الأوروبي: وجدت أوروبا نفسها الأكثر عرضة للصدمات المرتبطة بالمعادن النادرة أو الحرجة، خاصة مع اعتمادها الكبير على الصين، لذا أقرت دول الاتحاد الأوروبي "قانون المواد الخام الحرجة" سعيًا منها نحو الاستقلالية بشأن هذه المعادن. وسيظل الطريق نحو الاكتفاء الذاتي طويل ومكلف أمام أوروبا في هذا المجال، ما يجعلها ساحة محتملة لابتزاز اقتصادي من قبل الدول المنتجة أو المهيمنة على المعادن النادرة.
(-) التأثير على مسار الحرب الروسية الأوكرانية: دفعت العقوبات الغربية موسكو لتوسيع تعاونها مع الصين ودول آسيوية فيما يتعلق بالمعادن النادرة، الأمر الذي من شأنه أن يعزز ظهور تكتل جديد يضم روسيا والدول المنتجة لهذه المعادن فيما يُمكن أن يطلق عليه "تكتل أو كتلة الموارد" الذي بطبيعة الحال سيكون مناهضًا للتكتل الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي تزايد حدة الاستقطاب بين التكتلين.
وفي النهاية، يمكن القول إن "حروب المعادن النادرة" سوف تشكل مستقبل الصراعات الدولية التي لن تحكمها فقط القوة العسكرية أو التحالفات الأمنية، بقدر ما ستحكمها قدرة الدول على التحكم في المعادن النادرة أو المواد الأولية التي تغذي الثورة الصناعية الرابعة والتحول الطاقي. فهذه المعادن أصبحت سلاحًا جديدًا صامتًا يُستخدم في التنافس بين القوى الكبرى، وينذر بإعادة رسم خريطة النفوذ العالمي. فبينما تسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى التحرر من الاعتماد على الصين، تستغل بكين مكانتها لتأكيد نفوذها، فيما تبحث دول الجنوب عن فرص للصعود عبر استغلال مواردها. والنتيجة المتوقعة لذلك كله، هي تصاعد صراعات غير تقليدية حول المناجم والمصافي وسلاسل التوريد المرتبطة بالمعادن النادرة ما يجعل القرن الحادي والعشرين أكثر ارتباطًا بـالجغرافيا الاقتصادية الصناعية من ارتباطه بالجغرافيا العسكرية وحدها. لذلك ستظل انعكاسات هذه الحروب طويلة الأمد، وستحدد من يمتلك اليد العليا في الاقتصاد العالمي لعقود مقبلة. فالمعادن النادرة ليست مجرد ثروة طبيعية، بل أصبحت مفاتيح القوة في النظام الدولي سواء في الوقت الراهن أو المستقبل القريب.