يشهد النظام الاقتصادي العالمي تحولات كبرى بعد تراجع الدور الأمريكي التقليدي في تأمين الاستقرار التجاري والمالي الدولي، إذ وصفت مجلة "فورن أفيرز" الأمريكية السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال ولايته الثانية، بـ"زلزال اقتصادي" أحدث شروخًا عميقة في الأعراف والسلوكيات والمؤسسات التي حكمت العلاقات الاقتصادية العالمية لما يقارب ثمانية عقود.
ووفقًا للمجلة، فإن التغيرات التي طرأت ليست عابرة، بل تحمل في طياتها آثارًا طويلة الأمد ستؤثر على الدول الحليفة لواشنطن أكثر مما ستؤثر على منافسيها، وفي مقدمتها الصين.
تحولات الدور الأمريكي
توضح "فورن أفيرز" أن النظام الذي أسسته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية قام على توفير "منافع عامة عالمية"، شملت حرية الملاحة الجوية والبحرية، وضمان الملكية الخاصة، وتثبيت قواعد التجارة الدولية، فضلًا عن استقرار الأصول المقومة بالدولار.
وكانت هذه الخدمات بمثابة تأمين اقتصادي عالمي مكن الدول من خفض كلفة حماية اقتصاداتها ومواصلة التجارة العالمية بأمان، لكن مع وصول ترامب السلطة، تغير هذا الدور من "مؤمن عالمي" إلى "مستثمر يسعى لجني الأرباح المباشرة".
وربط ترامب بين الحماية العسكرية والتحالفات السياسية من جهة، وبين شراء الأسلحة والطاقة والمنتجات الأمريكية من جهة أخرى، كما مارس ضغوطًا على دول مثل المكسيك وفيتنام للتخلي عن الاستثمارات الصينية، واعتبرت المجلة الأمريكية أن هذه الممارسات غير مسبوقة في الحكم الأمريكي الحديث.
تراجع الثقة
بحسب المجلة، فإن انسحاب الولايات المتحدة من دورها التأميني لن يؤثر على الصين بالشكل الذي تريده واشنطن، بل سيضعف بالدرجة الأولى أقرب حلفائها، فاليابان، وكندا، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، والمملكة المتحدة، التي بنت إستراتيجياتها الاقتصادية على أساس المظلة الأمريكية، تجد نفسها اليوم في مواجهة تكاليف باهظة مقابل حماية أقل.
على سبيل المثال، فرضت واشنطن رسومًا جمركية بنسبة 15% على المنتجات اليابانية، أي عشرة أضعاف النسبة السابقة، وألزمت طوكيو بتخصيص 14% من ناتجها المحلي الإجمالي للاستثمار في الولايات المتحدة وفق شروط تحددها إدارة ترامب، إضافة إلى إلزامها بشراء منتجات زراعية وصناعية أمريكية.
واعتبرت المجلة أن هذه الإجراءات أضعفت قدرة اليابان على التحكم في استثماراتها وعرّضتها لمخاطر جديدة.
وتكشف بيانات مركز بيو للأبحاث لعام 2025، التي استشهدت بها "فورن أفيرز"، عن انخفاض حاد في شعبية الولايات المتحدة بين مواطني الدول الحليفة.
وفي اليابان تراجعت النظرة الإيجابية بمقدار 15 نقطة مئوية، وفي كندا بـ20 نقطة، بينما وصلت في المكسيك 32 نقطة مئوية، ويرى التقرير أن هذا التراجع يعكس شعورًا بالخيبة لدى شعوب استثمرت طويلًا في العلاقة مع واشنطن لكنها تواجه اليوم "خيانة غير متوقعة".
البحث عن بدائل
أوضحت المجلة أن الكتل الاقتصادية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" لم تكن على نفس درجة الارتباط بالولايات المتحدة مثل حلفائها الآسيويين المباشرين، إلا أنها استفادت أيضًا من المظلة الأمريكية عبر الاستثمارات المباشرة وشراء سندات الخزانة والمشاركة في سوق الأسهم الأمريكية.
ومع فرض ترامب تعريفات جمركية ضخمة واشتراطات ثنائية مثل شراء الغاز الأمريكي أو نقل الصناعات إلى داخل الولايات المتحدة، بدأت هذه الكتل تتحرك بسرعة نحو تعزيز علاقاتها مع الصين.
وتبرز أمثلة عديدة على ذلك، منها الصفقة الاقتصادية بين إندونيسيا والصين عام 2025، بقيمة 3 مليارات دولار، لإنشاء مجمع صناعي يربط جاوة الوسطى بمقاطعة فوجيان، فضلًا عن اتفاقيات لتوسيع التجارة بالعملات المحلية بين جاكرتا وبكين.
مواجهة الصدمات
يُبرز التقرير تمايزًا متزايدًا بين الأسواق الناشئة الكبرى مثل البرازيل والهند وتركيا وإندونيسيا، التي باتت أكثر قدرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية بفضل إصلاحات محلية وفرص التصدير، وبين الاقتصادات الفقيرة التي تعاني من تراكم الديون وانكماش الدخل.
وفي ظل انسحاب الولايات المتحدة من سياسات الدعم والمساعدات، ستجد الدول الأقل دخلًا نفسها في مناطق اقتصادية "منخفضة الإمكانات" مع صعوبة الخروج منها، أما الدول الكبرى نسبيًا، فستجذب رؤوس الأموال الباحثة عن الاستقرار النسبي.
أحد أخطر التحولات التي يرصدها تقرير "فورن أفيرز" يتمثل في تراجع مكانة الدولار كأصل آمن، فقد أطلقت إدارة ترامب تهديدات بفرض قيود على المستثمرين الأجانب وإجبار الدول على استبدال حيازاتها بسندات طويلة الأجل، إضافة إلى الحديث المتكرر عن خفض قيمة الدولار.
هذا المناخ من عدم اليقين قوض الثقة في سندات الخزانة الأمريكية التي شكلت لعقود وجهة رئيسية للمدخرات العالمية، ومع تراجع السيولة والضمانات، بدأ المستثمرون ينظرون إلى الدولار كسائر العملات، يتحرك صعودًا وهبوطًا تبعًا لأسعار الفائدة بدلًا من أن يكون ملاذًا آمنًا في الأزمات كما كان الحال سابقًا.
عالم بلا تأمين
خلصت المجلة إلى أن نموذج "التأمين الاقتصادي" الذي وفرته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كان مربحًا لجميع الأطراف، إذ أتاح للدول التجارة والاستثمار في بيئة مستقرة، بينما حصدت واشنطن فوائد ضخمة في صورة استثمارات أجنبية، قروض رخيصة، والتزام عالمي بالمعايير الأمريكية.
لكن سياسات ترامب نسفت هذا النموذج لصالح نهج قصير الأمد يقوم على استغلال حالة عدم اليقين لابتزاز الحلفاء وفرض شروط مجحفة عليهم، وترى "فورن أفيرز" أن هذا التحول سيؤدي في النهاية إلى عالم أقل استقرارًا وأعلى تكلفة للجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.