الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

مستقبل تفاعلات النظام الدولي بعد قمة ألاسكا بين ترامب وبوتين

  • مشاركة :
post-title
الرئيسان الأمريكي والروسي في ألاسكا

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

يبدو أن نتائج قمة ألاسكا التي عُقدت بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في 15 أغسطس 2025، سيكون لها انعكاساتها على مستقبل تفاعلات النظام الدولي، لا سيما أن القمة لم تتوصل إلى نتائج حاسمة بشأن وقف إطلاق النار فى أوكرانيا، وإنما الحديث عن خطة لإحلال السلام تراعي مخاوف روسيا، وتقر بالأوضاع الجديدة التي حققتها في أوكرانيا، الأمر الذي عكس التفاعلات البنيوية الجديدة للنظام الدولي، التي تقر بأزمة الهيمنة الغربية، ومأزق القوة الأمريكية في عهد ترامب، وتصاعد للدور الروسي في ظل شراكة استراتيجية مع الصين التي ترفض هزيمة روسيا في أوكرانيا، كما صرّح وزير خارجيتها وانج ويي بأن الصين لن تسمح بهزيمة روسيا في أوكرانيا، فضلًا عن مطالبات للقوى الصاعدة في النظام الدولي بتحوله من الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.

تفاعلات ممتدة

كشفت نتائج قمة ألاسكا بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عن تفاعلات ممتدة للقوى الدولية، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

(*) أزمة الهيمنة الأمريكية: عكست نتائج قمة ألاسكا والإخفاق في تبني قرار بوقف الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ 24 فبراير 2022 تجليات أزمة الهيمنة الأمريكية ما بين الشعارات التي رفعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بتوقف كل الحروب بمجرد انتخابه، حيث تعهد بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة من دخوله البيت الأبيض، واتجه بعد انتخابه نحو وقف المساعدات العسكرية لكييف التي اعتبرها استنزافًا للاقتصاد الأمريكي أثقلته به إدارة الرئيس السابق جو بايدن، كما كثّف اتصالاته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب من خلال انطلاق المفاوضات الأمريكية الروسية التي بحثت العديد من أوجه التعاون بين الجانبين. لكن سرعان ما تحول الموقف الأمريكي نحو الإقرار بدعم أوكرانيا، وربما جاء ذلك بضغوط داخلية من الكونجرس وضغوط خارجية من الحلفاء الأوروبيين، فضلًا عن التهديد بفرض مزيد من العقوبات على الاقتصاد الروسي.

ويعكس هذا التحول في الموقف الأمريكي الافتقار إلى فهم تعقيدات الصراع الروسي الأوكراني، الأمر الذي كشفته نتائج قمة ألاسكا.

(*) تأكيد الصعود الروسي: نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كسر العزلة الغربية المفروضة على بلاده منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بعقد القمة الأمريكية الروسية على مستوى القادة بولاية ألاسكا الأمريكية، التي سبق أن اشترتها الولايات المتحدة من القيصر الروسي ألكسندر الثاني عام 1867 بنحو 7.2 مليون دولار.

وقد وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محادثاته مع الرئيس الأمريكي بأنها جاءت في الوقت المناسب ومفيدة للغاية، مشيرًا لمناقشة جميع مجالات التعاون، والتحدث عن إمكانية حل الأزمة الروسية الأوكرانية على أساس عادل. وقد تزامن انعقاد القمة مع تقدم القوات الروسية في أوكرانيا، حيث اقتربت من السيطرة الكاملة على إقليم الدونباس، وهو ما يعني أن روسيا تمكنت بعد الحرب من إحكام السيطرة على ما يقرب من 20% من الأراضي الأوكرانية بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، كما يعني ذلك إصرار روسيا على تحقيق أهدافها في أوكرانيا مقابل تراجع أمريكي عن فرض عقوبات أعلن عنها ترامب ما لم تتوقف الحرب، بل كانت قمة ألاسكا إيذانًا بمسار تعاوني أمريكي روسي، وما تردد عن عقد قمة أخرى في موسكو يصب بلا شك فى في مصلحة الصعود الروسي على مسرح السياسة الدولية.

(*) الانتظار الحاسم للصين: على الرغم من تقدم الصين بمبادرة لتسوية الصراع الروسي الأوكراني بالطرق السلمية، إلا أن تصريح وزير الخارجية الصيني وانج يي بأن الصين لن تسمح بهزيمة روسيا يجعل من المسألة الأوكرانية مرتكزًا للتوازنات الدولية التي عكسها الارتباك المتزايد في السياسة الخارجية الأمريكية، دفع الصين لاستثمار حالة التذبذب الأمريكية لتعزيز حضورها الاقتصادي والدبلوماسي في ظل ترجع ثقة الحلفاء الأوروبيين في التوجهات الأمريكية إزاء الصراع الروسي الأوكراني. وثمة إدراك صيني بأن هزيمة روسيا ستجعل من الصين هدفًا استراتيجيًا تاليًا للولايات المتحدة برغم تنامي العديد من الأفكار الغربية التي تتبنى التنافس التعاوني مع الصين، وصعوبة فك الارتباط بين الاقتصادين الأمريكي والصيني.

(*) خفوت الدور الأوروبي: عكست قمة ألاسكا وغياب التمثيل الأوروبي في فعالياتها معضلة الأمن الأوروبي الذي شكّل الصراع الروسي الأوكراني تهديدًا مباشرًا لمرتكزاته في ظل الاعتماد الأوروبي على الضمانة الخارجية الأمريكية. واعتبر مفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد باولو جينتليوني قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب انتصارًا لبوتين وهزيمة معنوية للغرب بعد الاستقبال الحافل الذي حظي به بوتين دون الحصول على أي شىء مقابل ذلك. وبدأت العديد من القوى الأوروبية في تعزيز قدراتها العسكرية، بما أدى إلى سباق تسلح محموم في القارة الأوروبية فضلًا عن تنامي الحديث حول الردع النووى الأوروبي، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول مد مظلة الردع النووي الفرنسي للحلفاء. كما اتجهت دول أوروبية رئيسية كألمانيا وفرنسا إلى بناء شراكات استراتيجية جديدة مع كل من الصين والهند وهو ما يعد خصمًا من رصيد التحالف الأوروبي الأمريكي.

تحولات محتملة

تعكس نتائج قمة ألاسكا التحولات التي من المحتمل أن يشهدها النظام الدولي ما بين مسارين رئيسيين:

(&) المسار الأول: استمرار الهيمنة الغربية على تفاعلات النظام الدولي: غير أن هذا المسار يواجه العديد من الصعوبات منها ما يرتبط بالداخل سواء الأمريكي أو الأوروبي وحالة الانقسام الممتدة بين التيارات الداخلية، وصعود اليمين المتطرف الذي يتبنى سياسات إقصائية ضد المهاجرين واللاجئين ويعمق من أزمات الثفة والهوية والانتماء داخل المجتمعات الأمريكية والأوروبية على حد سواء. ومنها ما يرتبط بالتباعد الأمريكي الأوروبي منذ وصول ترامب بعد قراراته بزيادة الرسوم الجمركية، وزيادة الإنفاق العسكرى في إطار حلف شمال الأطلنطي (الناتو) لتتحمل أوروبا تكلفة حماية أمنها. وهو الأمر الذي دفع العديد من القوى الأوروبية نحو الاستقلالية في علاقاتها الخارجية بعيدًا عن التوجهات الأمريكية.

(&) المسار الثاني: أفول الهيمنة الأمريكية وإرهاصات التحول نحو نظام متعدد الأقطاب: وهي التوجهات التي تطالب بها القوى الدولية الصاعدة اقتصاديًا وفي مقدمتها الصين وروسيا والهند، لذلك من المحتمل أن يشهد النظام الدولي في ظل حالة الارتباك الأمريكي إزاء الصراعات الدولية المعقدة، ومنها الصراع الروسي الأوكراني إرهاصات التحول نحو نظام متعدد الأقطاب من الناحية الاقتصادية لقوى دولية مثل الصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي وأحادي القطبية من الناحية العسكرية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، حتى يحدث انتقال كامل نحو تعددية قطبية اقتصادية وعسكرية بفعل الصيرورة التاريخية في صعود وهبوط الإمبراطوريات.

مجمل القول؛ تشكّل قمة ألاسكا محطة محورية في مسيرة التحولات الدولية، والاتجاه نحو بناء موازين قوى جديدة تعكس إرهاصات التعددية القطبية في ظل أزمة الهيمنة الأمريكية، وهي تحولات لا تعكس فقط تغير ثقة الحلفاء فى واشنطن كحليف استراتيجي، وإنما خفوت تدريجي للهيمنة الأمريكية الأحادية التي استمرت لعقود متتالية وبدأت في الانزواء بحكم الصيرورة التاريخية.