في الوقت الذي هبطت فيه طائرتا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لعقد ما يشبه "قمة تاريخية" في أقصى الحدود الشمالية التي تربط تقريبًا بين بلديهما، ومخاوف الحلفاء من التنازلات المحتملة من ترامب لضيفه لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكن في الواقع فإن الصراع الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية هو مجرد واحدة من القضايا التي ستحدد ما وصفه الزعيم الأمريكي بـ"لعبة الشطرنج".
يأتي لقاء الرجلين، رجل الأعمال المؤمن بإتمام الصفقات والساعي إلى وضع جائزة نوبل للسلام على رف مقتنياته، ورجل المخابرات الذي يعمل لإعادة لم شمل الاتحاد السوفييتي، في قاعدة "إلمندورف-ريتشاردسون" المشتركة (JBER)، وسط تقاطع العديد من الاتجاهات التاريخية والاستراتيجية والجيوسياسية، التي قد تحدد مصير العالم ربما لعقد قادم.
وعندما يصل بوتين إلى ألاسكا، سيصبح أول زعيم روسي تطأ قدماه الأراضي التي كانت خاضعةً للإمبراطورية الروسية قبل أكثر من 150 عامًا.
ولا تزال أكبر الولايات الأمريكية مساحة حتى اليوم موطنًا لمجتمع صغير من الروس العرقيين، ومجتمع كبير من السكان الأصليين الذين يعود تاريخهم إلى ما وراء مضيق بيرينج.
القطب الشمالي
بعد أن كانت موقع الغزو الياباني الوحيد لأمريكا الشمالية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الصراع الذي اتحدت فيه واشنطن وموسكو ضد أعداء مشتركين، وبعد ذلك خط جبهة حاسم في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تنتظر ألاسكا كلًا من ترامب وبوتين عند مفترق طرق جديد في التاريخ.
تنقل مجلة "نيوزويك" الأمريكية عن مايك سفراجا، الذي شغل منصب أول سفير للولايات المتحدة في القطب الشمالي، أنه منذ أن اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من روسيا في عام 1867، مرَّ البلدان بتقلبات دقيقة ودراماتيكية في علاقاتهما، من حلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، إلى خصوم أقوياء خلال الحرب الباردة، إلى شركاء حذرين، إلى منافسين مرة أخرى.
يضيف: "لكننا اليوم في مشهد جيوسياسي أكثر تعقيدًا بكثير.. إذا أمكن تحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا، فإن العلاقات الأفضل بين الولايات المتحدة وروسيا قد تمكن من التعاون بين جميع دول القطب الشمالي حتى تتمكن معًا من معالجة التحديات والفرص الملحة المتاحة في جميع أنحاء المنطقة".
يشير سفراجا إلى أن الأهمية المتزايدة للقطب الشمالي تتجلى في مصالح وتطلعات وأنشطة ووجهات نظر القوى العظمى في العالم، الولايات المتحدة وروسيا والصين، ومن بين الدول الثلاث، اثنتان منها في القطب الشمالي، حيث تتعاون روسيا والصين في المنطقة بوتيرة مثيرة للقلق ومستويات متزايدة من التعقيد.
رغبة توسعية
يتجلى اعتراف ترامب بالأهمية الاستراتيجية للمنطقة في رغبته المعلنة في شراء مساحة أكبر من العقارات في القطب الشمالي من ألاسكا، وأثار اهتمام الزعيم الأمريكي بجرينلاند موجة واسعة من السخرية والقلق، لا تختلف في الواقع كثيرًا عن شراء ألاسكا حينها.
وبما إن الدنمارك، حليفة "الناتو" التي تشرف على أكبر جزيرة في العالم كإقليم يتمتع بالحكم الذاتي، غير مهتمة ببيع أحد آخر آثار إمبراطوريتها السابقة، رفض ترامب -مرارًا وتكرارًا- استبعاد استخدام القوة العسكرية للاستحواذ على جرينلاند.
وقال لشبكة NBC في مايو: "قد يحدث ذلك (الاستحواذ العسكري). قد يحدث شيء ما بشأن جرينلاند.. بصراحة، نحن بحاجة إلى ذلك من أجل أمننا الوطني والدولي".
لكن بوتين كان أقل صدمة من هذا الخطاب، إذ كان قبلها -في وقت سابق خلال اجتماع المنتدى الدولي للقطب الشمالي في مارس الماضي- متنبهًا لرؤية نظيره الأمريكي، وقال إنه "من الواضح أن الولايات المتحدة ستواصل تعزيز مصالحها الجيوستراتيجية والعسكرية والسياسية والاقتصادية في القطب الشمالي بشكل منهجي".
مخاطر وفرص
عندما يتعلق الأمر بمنطقة المحيط الهادئ في القطب الشمالي، فإن احتمالات فشل المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا تجعل الأمور أكثر تعقيدا.
هذا العام وحده، انطلقت مقاتلات أمريكية وكندية، من نفس القاعدة التي يجتمع فيها ترامب وبوتين، ثلاث مرات لاعتراض مقاتلات وقاذفات روسية دخلت منطقة تحديد الدفاع الجوي في ألاسكا، وفي العام الماضي أيضًا اعترضت طائرات قيادة الدفاع الجوي الفضائي لأمريكا الشمالية (NORAD) دورية صينية روسية مشتركة لأول مرة.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، أجرت موسكو وبكين دورية بحرية مشتركة في شمال منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ووصلت إلى ميناء بتروبافلوفسك كامتشاتسكي، على الساحل الشرقي لشبه جزيرة كامتشاتكا الروسية.
مع هذا، فإن أي عدم استقرار فعلي في القطب الشمالي يتعارض مع الأهداف الاقتصادية الأساسية لموسكو في المنطقة، إذ إن الاستقرار الإقليمي أمر بالغ الأهمية للمصالح التجارية، والإدارة الفعالة لمنطقة بيرينج بكل الطرق أمر بالغ الأهمية لضمان الثقة في استخدام بحر الشمالي كطريق شحن إلى أوروبا.
ورغم تأكيد ترامب على تركيزه على تسوية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإنه لم يستبعد التقارير التي تشير إلى أنه يفكر في السماح لموسكو بالوصول إلى ثروة ألاسكا من المعادن الأرضية النادرة كجزء من صفقة أوسع، حسب "نيوزويك".
ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يستند إلى تاريخ يمثل فيه القطب الشمالي منطقة غير مألوفة للتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، اللتين اتسمت علاقتهما في الغالب بالتوترات.
الاتفاق النووي
ويجتمع ترامب وبوتين في واحدة من أدنى النقاط في تاريخ ضبط الأسلحة بين واشنطن وموسكو، مع انهيار معاهدة القوى النووية متوسطة المدى (INF) في عام 2019، ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ((ABM، أو BMD)) التي انتهت منذ عام 2001، ومعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة (New START) التي من المقرر أن تنهار في فبراير المقبل دون تمديد.
ينقل التقرير عن أندريه جوبين، باحث العلاقات الدولية المقيم في فلاديفوستوك في أقصى شرق روسيا، إلى أنه مع عودة الخطاب النووي إلى المسرح العالمي، هناك ضرورة للحوار الأمني بشأن المنطقة التي صُممت أجزاء الثالوث النووي الثلاثة للولايات المتحدة وروسيا للسفر إليها في حالة اندلاع حرب نهاية العالم.
ولفت جوبين إلى أن المنطقة ذات أهمية بالغة للردع الاستراتيجي، وبالتالي فإن دولنا تحاول التقليل إلى أدنى حد من تدخل أي طرف ثالث مزعزع للاستقرار هنا، مفضلة الحفاظ على السيطرة العسكرية.
أضاف: "معاهدة ستارت بين روسيا والولايات المتحدة تنتهي في أقل من عام، ولم يتم حتى ذكر معاهدات القوى النووية المتوسطة المدى والصواريخ الباليستية لإعادة بنائهما، لكن روسيا والولايات المتحدة لا يمكنهما إهمال الاستقرار، مع استمرار قدرتهما على محو بعضهما البعض بالأسلحة النووية".