تواجه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أزمة إنسانية حادة في قطاع غزة، تشبه التحديات الأخلاقية التي واجهها أسلافه في البيت الأبيض.
ووفقًا لصحيفة واشنطن بوست، دفعت صور الأطفال الجوعى في غزة ترامب لإعادة النظر في موقفه، ما يضعه أمام اختبار مشابه لما شهدته أزمات البلقان ورواندا ودارفور وسوريا.
وقع الصور المأساوية
أعرب ترامب عن انزعاجه العميق من صور الأطفال الذين يعانون سوء التغذية في غزة، قائلًا في أسكتلندا الاثنين الماضي، حسبما نقلت "واشنطن بوست": "أعني، بعض هؤلاء الأطفال... هذا جوع حقيقي.. أراه، ولا يمكن تزييفه، لذا سنصبح أكثر انخراطًا".
وفي تطور مفاجئ، قررت الإدارة الأمريكية إعادة إرسال المبعوث الخاص ستيف ويتكوف إلى إسرائيل -يصل اليوم الخميس- لمناقشة أوضاع غزة، بعد أيام من سحبه من محادثات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس.
وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن ويتكوف قد يزور مركزًا لتوزيع الطعام في القطاع المحاصر.
واقع كارثي وتنصل إسرائيلي
تشهد غزة أوضاعًا إنسانية كارثية، وذكرت مجموعة تابعة للأمم المتحدة في تقرير هذا الأسبوع أن سيناريو مجاعة "الحالة الأسوأ" يتكشف في القطاع.
وتقول السلطات الصحية في غزة إن عشرات الغزيين -بينهم أطفال- استُشهِدوا جوعًا في الأسابيع الأخيرة، وسط صور مؤلمة لأطفال وأشخاص يتقاتلون من أجل الطعام.
ومع ذلك، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المسؤولية عن نقص الغذاء، مؤكدًا أنه "لا توجد سياسة تجويع في غزة، ولا يوجد تجويع في غزة"، متهمًا حماس بأنها "تسرق وتنهب هذه المساعدات الإنسانية ثم تتهم إسرائيل بعدم توريدها".
إلا أن حماس تنفي هذه الاتهامات، بينما قال مسؤولون عسكريون إسرائيليون بشكل خاص إنهم لم يجدوا أدلة تؤكد صحة ادعاء إسرائيل بأن حماس تسرق وتنهب المساعدات الإنسانية المرسلة إلى غزة.
غضب دولي وانتقادات
أثارت الأزمة غضبًا عالميًا واسعًا، وأعلنت فرنسا هذا الأسبوع أنها ستعترف بدولة فلسطينية مستقلة في الأمم المتحدة في سبتمبر، بينما قالت بريطانيا إنها ستحذو حذوها إذا لم توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار مع حماس.
وفي تطور مثير داخل الولايات المتحدة، أدانت النائبة الجمهورية مارجوري تيلور جرين، إحدى أقوى حلفاء ترامب في الكونجرس، أعمال إسرائيل في غزة باعتبارها "إبادة جماعية".
نمط تاريخي للتردد الرئاسي
وضع ستيفن ويرثايم،الخبير في شؤون الحكم الأمريكي، هذه المعضلة في سياقها التاريخي، قائلًا لـ"واشنطن بوست": "تبريرات الرئيس ترامب حول غزة تتردد مع سلسلة طويلة من الرؤساء الذين تعرضوا لضغوط لمعالجة كوارث إنسانية"، مبينًا أن هذا الضغط ينبع من شعور بالواجب الأخلاقي، يعود إلى خطبة جون وينثروب عام 1630 "مدينة على تل"، عندما أخبر مستعمري ماساتشوستس البيوريتان أن "عيون جميع الناس علينا".
دروس الفشل التاريخي
شهد التاريخ الأمريكي الحديث نماذج متكررة للتردد الرئاسي أمام الأزمات الإنسانية، فالرئيس بيل كلينتون -الذي تولى المنصب عام 1993 كداعم لحقوق الإنسان والمؤسسات الدولية- رفض دعوات التدخل الأمريكي عندما بدأت ميليشيات الهوتو المسلحة في ذبح عرقية التوتسي في رواندا عام 1994.
وخوفًا من التصعيد بعد مقتل 18 جنديًا أمريكيًا في مهمة حفظ سلام في الصومال، تركت عمليات القتل تستمر دون رادع، ما أدى إلى إبادة جماعية لنحو 800 ألف من التوتسي.
اعترف كلينتون لاحقًا بأنه يأسف لعدم فعل المزيد لوقفها، كما تردد عندما ذبحت القوات الصربية المدنيين في البوسنة والهرسك في منتصف التسعينيات، رافضًا نداءات مباشرة من أمثال إيلي فيزل، قائلًا إن المشكلة لا تستحق المخاطرة بأرواح أمريكية.
لكن مجزرة 1995 التي راح ضحيتها 8 آلاف رجل وصبي في "المنطقة الآمنة" المُعلَنة من الأمم المتحدة في بلدة سريبرينيتسا البوسنية دفعته أخيرًا للعمل.
من أوباما إلى بايدن
واجه باراك أوباما تحديات مشابهة، إذ أمر بضربات جوية في ليبيا عام 2011 ضد القوات الحكومية، قائلًا إنه تصرف لتجنب "مجزرة كانت ستتردد عبر المنطقة وتلطخ ضمير العالم".
لكن هذا التدخل المحدود نظريًا توسَّع ليصبح حملة قصف من حلف الناتو لأشهر، وانهارت ليبيا في فوضى عنيفة، ما جعل أوباما يندم على التجربة.
ولذلك عندما تعرض لضغوط مرة أخرى للتدخل في الحرب الأهلية السورية، رفض نداءات الضربات الجوية من كبار المسؤولين، بما في ذلك وزير الخارجية جون كيري.
أما الرئيس جو بايدن، فواجه أسئلة قاسية حول دعمه لإسرائيل، وتعرض للصراخ في الأحداث العامة من قبل محتجين يتهمونه بالتواطؤ في "الإبادة الجماعية".
وبينما كان بايدن يوبخ نتنياهو غالبًا للسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة، لم يخاطر أبدًا بقطيعة كاملة مع رئيس الوزراء حول هذه المسألة.
ولجأ بايدن إلى عروض درامية لدعم الفلسطينيين الجوعى، أرسل طائرات عسكرية لإسقاط الإمدادات وأمر ببناء رصيف بتكلفة 230 مليون دولار للسماح بتوصيل المساعدات عن طريق البحر، والتي اعتبرها النقاد "بدائل تلفزيونية" لممارسة ضغط حاسم على نتنياهو.
جزء من المشكلة وليس الحل
يشير "ويرثايم" إلى جوهر المشكلة الأمريكية في غزة، قائلًا لـ"واشنطن بوست": "ليست المسألة أن أطرافًا أخرى منخرطة في فظائع والسؤال هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم قوتها الصالحة لإيقافها.. في هذه الحالة، المسألة هي أن الولايات المتحدة متواطئة في سلوك إسرائيل".
هذا التواطؤ يضع ترامب في موقف معقد، إذ يواجه ضغوطًا أخلاقية للتدخل، بينما سياسته "أمريكا أولًا" وتخفيضاته العميقة في الإنفاق على المساعدات الخارجية وتفكيكه لوكالة التنمية الدولية الأمريكية تتعارض مع فكرة التدخل الإنساني.