لطالما اعتبر مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) نفسه منظمةً مبنيةً على الخبرة. كان مؤسسه، إدجار هوفر، من أوائل المدافعين المخلصين عن إضفاء طابع احترافي على البيروقراطية الحكومية، لدرجة إلزام عملائه بارتداء بدلة داكنة وربطة عنق مخططة.
أما الآن، فالمكتب في المراحل الأولى ما يشبه نزعًا جذريًا للاحترافية. ويبدو أن أهم صفة يجب أن يتحلى بها مسؤول مكتب التحقيقات الفيدرالي الآن ليست الكفاءة، بل الولاء.
وفي حديث لمجلة "تايم"، تحدث أحد عملاء المكتب المستقيلين بسبب استهدافه من قِبل إدارة الرئيس دونالد ترامب. فقط لأنه صديق لعميل آخر طالما أثار غضب الرئيس خلال فترة ولايته الأولى. وفي الحديث، يشير مايكل فاينبرج، الذي قضى في المكتب 15 عامًا، إلى أنه "أصبح هدفًا لقيادة المكتب في وقت يشهد فوضى غير عادية".
وكما أعرب فاينبرج في رسالة استقالته عن أسفه على "تدهور" مكتب التحقيقات الفيدرالي، جادل في مقال نُشر أخيرًا بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي "أصبح مهووسًا بالنقاء الأيديولوجي والتسييس المستمر للقوى العاملة".
خادم ترامب
في ولايته الثانية، كثّف ترامب جهوده لتحويل المؤسسات غير السياسية ظاهريًا إلى أدوات لسلطته الشخصية. وهذه استراتيجية خطيرة أيًا كان شكلها، إذ إن استنزاف الخبرات الحكومية يُعرّض الدولة للخطر "لكن نهج ترامب الشخصي خطير بشكل خاص عند تطبيقه على الوكالات التي يمكنها احتجاز الأشخاص ومحاكمتهم وسجنهم"، وفق تعبير "تايم".
وفي الواقع، لا يتمتع مكتب التحقيقات الفيدرالي بسجل حافل لا تشوبه شائبة. فبالإضافة إلى تركيزه على بناء المؤسسات التكنوقراطية، ترك هوفر وراءه إرثًا مضطربًا من جنون العظمة وسياسات القوة البيروقراطية، إضافة إلى الاستعداد لمضايقة الأعداء السياسيين، وهو ما لم ينجح المكتب أبدًا في فك ارتباطه به.
لكن، يبدو أن إخضاع مكتب التحقيقات الفيدرالي لسلطة الرئيس، دون قيود أو رقابة سياسية، هو بالضبط ما يريده ترامب، وما يبدو أن مدير المكتب الحالي كاش باتيل يسعيان إليه. وهو ما بدا أخيرًا، بعد إعلان مصادر في وزارة العدل (DOJ) أن المكتب قد فتح تحقيقًا جنائيًا مع رؤساء استخبارات سابقين قادوا تقييم الحكومة للتدخل الروسي في الانتخابات عام 2016؛ كما نقلت قناة "فوكس نيوز" أخيرًا.
في إدارة ترامب الأولى، كان هذا الاستخدام الصارخ لمكتب التحقيقات الفيدرالي لأغراض سياسية ليُعدّ انتهاكًا لا يُصدق لاستقلالية أجهزة إنفاذ القانون. لكن القيادة الجديدة لمكتب التحقيقات الفيدرالي دأبت على إقصاء العديد ممن قد يعترضون.
ومع استمرار الإقصاء، يبدو تأثير هذا الاستنزاف على ثقافة مكتب التحقيقات الفيدرالي في المستقبل. حيث يتناقص عدد عملاء المكتب ذوي القيم الراسخة الذين ما زالوا يحاولون الصمود "فبدون وجود كوادر قديمة للتعبير عن اعتراضاتها المبدئية، سيصبح الموظفون الجدد والشباب متأقلمين مع مكتب مُسيّس، كما قال فاينبرج.
عمليات الهجرة
إضافة إلى تسخير المكتب لمهاجمة خصومه الشخصيين، ورّط ترامب مكتب التحقيقات الفيدرالي في المساعدة في حملات دائرة الهجرة والجمارك (ICE) لاعتقالات الهجرة؛ ما جعل عملاء المكتب في حرج وخطر بعد تصويرهم ومسؤولي الهجرة والتشهير بهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع لارتداء أقنعة تخفي هوياتهم، وهو أمر آخر أثار غضبًا كبيرًا.
وحسب العميل السابق، تكمن المشكلة في الطريقة التي اختارتها إدارة ترامب لاستخدام مكتب التحقيقات الفيدرالي "أخذ عملاء مدربين على التحقيقات المعقدة وتركهم يقفون في أماكن مخيفة بينما يُجري عملاء دائرة الهجرة الاعتقالات. هذا التداخل بين مكتب التحقيقات الفيدرالي ودائرة الهجرة والجمارك لا يُهدر الموارد فحسب، بل يُقوّض بشكل فعّال قدرة المكتب على التحقيق في العصابات ذاتها التي أعلن باتيل رغبته في مواجهتها".
وتساءل: "لماذا يُوافق أي مهاجر من أمريكا اللاتينية على التعاون مع المكتب في القضاء على عصابة MS-13 أو ترين دي أراجوا، إذا كان التواصل مع جهات إنفاذ القانون قد يُؤدي في نهاية المطاف إلى ترحيله؟"